وسط مدينة الخرطوم.. “الظلام هدوءٌ و أُنس.. اذكروا السودان يذكركم”.. أماني أبوسليم

وسط مدينة الخرطوم و الى شمالها و غربها، كنت تجده ملؤه الحياة صباحا، نائم و قد اطفأ انواره من بداية المساء. يبدأ وافدوه وداعه مع نهاية النهار. لتغرق الشوارع في صمت هامس هنا و هناك، و هو حال غير حال جنوبها و شرقها حيث يضج الناس في الاسواق و المطاعم و الكافيهات حتى ساعات متأخرة من الليل.
بعد ان تكون قد اجهدت نفسك في قضاء امرك بوسط الخرطوم، قبل حلول الظلام، و قد اصبح سكنك قبل الكارثة باعوام ستكتشف انك كنت تضيع على نفسك متعة انسها في ذلك الهدوء.
سترهقك متابعة الاطباء و مطلوباتهم و انت تلهث لتقضي الامر قبل حلول المساء
سينهكك الاسراع قبل الخامسة مساء بقليل لتلحق ساعات السباحة بمسبح الكشافة قبل نزول المساء، ستكون لا زلت متعبا من نهار العمل، و سيزيد الانهاك بالجلوس على كراسي الاستقبال لساعتين في انتظار الاولاد. نادي الكشافة النادي الهادئ على النيل في قبالة العمارة الكويتية بصخبها و نشاطها، على جانبه الغربي مطعم كنتاكي الزجاجي الواجهة، خالٍ تقريبا من الزبائن في المساء.
ستتجنب كثيرا من الفعاليات المسائية القريبة خوفا من هبوط الظلام في هذه الشوارع الخالية و الصامتة. الظلام عدوك الاول، تعودت ان تسارع دائما باشعال انوار البيت من اول المساء فلا تضطر لدخول غرفة مظلمة و تضيع ثوانٍ في البحث عن مفتاح الضوء، فكيف بالسير في شوارع مظلمة، خالية، و موحشة.
في تجنب الارهاق و محاولات الاستئناس بالظلام، ستجد نفسك تلعب معها: اريكا عميا، اريكا عميا، اريكا عميا، اريكا فااااتِحييي، لتنظر هل نجحت ام جاءت قدميك على الخطوط المرسومة و انت مغمض العينين.
سيعجبك اللعب و انت تنجح كل مرة في التعود على الظلام و وضع قدميك في المكان الصحيح في اللعبة.
ستضطر للذهاب ليلا الى مستشفياتها، صارخا: اريكااا لتجد انك وصلت بسلام، و سلم ابنك مما كان يعاني، فتواصل بعدها: اريكااا.
ستستشفى اكثر بمستشفى امبريال، ستألف الطريق اليها سريعا في الظلام، مكانها كان البيت حيث العيش في الطفولة الباكرة، ما ان تنعطف يمينا من طرف السفارة النيجيرية بشارع المك نمر سيحدثك وجدانك ان اهدأ، ستأتيك اطياف لجيران كانوا هنا، و سريعا ستجد نفسك في المدخل لتلعب لعبة هنا كان الحوش الجنوبي، انا الآن اقف في الصالة الطويلة، ربما من هنا ادخل غرفة البنات. ستخرج و قد لف الظلام المكان، لكنك ستستأنس بمكاتب جريدة الصحافة حيث كنت تنتمي لاكثر من عام، و قربها المركز الفرنسي حيث درست و شاركت ببعض نشاط و قد اضاء الشارع، و اضاء امسيات الخرطوم و زينها بعده ستنعطف يمينا لشارع السيد عبدالرحمن، في مقابل المباني الجديدة لدار الوثائق القومية.
ستتذكر انك كنت سابقا الكابلي شخصيا بفصل دراسي، و كيف كان يخرج زملاؤه بالفصل مبتهجين بصوته، يقلدونه و هو يصدح ب ( فوووو او Vous)
و ستتعود بعد قليل على الطريق المظلم الى مسبح الكشافة، اول الانعطاف من شارع المك نمر و دخول شارع النيل عند العمارة الكويتية حتى الطرف الغربي لجامعة الخرطوم ستقارن بين المكان مساءً و بالنهار و ازدحام المرور و الضجيج و نشاط المارة و انعدامهم في المساء
ستتذكر كيف حيرك هذا الظلام في يومٍ ما حين طلبت منك ادارة المركز الثقافي الفرنسي ان تعمل جولة لضيفة للمركز بعد انتهاء الورشة مساء لأنها تود ان تشاهد النيل قبل سفرها صباحا. ستأخذها من هناك الى شارع النيل بالخرطوم ثم ام درمان فبحري فالخرطوم لتعيدها الى المركز، لن تتمكنوا من رؤية النيل، و كان ذلك قبل تحديث شارعه. كان الشارع غارقا في الظلام ، تنظر ناحية النيل لترى الحشائش و الاشجار و بعدها اكثر ظلاما، شيرين، بظرفها و خفة ظلها خففت كثيرا من حيرتنا، سرنا على الكباري ببطء لأنها كانت الفرصة لرؤية النيل تحتنا و بانوار الكبري.
ستفتتح لاحقا ادارة مسبح الكشافة، و كأنها مكافأة لك مكانا يطل على النيل، بسيط بلا بهارج او بلاط لامع، ستتيح لك ساعتين على النيل في هدوء يسحب الارهاق، ستنظر الى النيل و هو يحدث نفسه في هدوء، و يوجه بعض موجاته الناعمة نحو المراكب الراسية، ستهامسك مدينة بحري محافظةً على سكونها على الضفة الاخرى. سيصبح المكان صديقك الذي ستأتي اليه خائضا الخوف من الظلام. تنفض عنده رهق النهار و تتعرف فيه على طاقة جديدة في مدينة قديمة و كأنها جديدة.
يعتبر ما كان يسمى بصينية سان جيمس سابقا بشارع الجمهورية ملتقى لشوارع وسط الخرطوم او بداية لبعضها. من هذا الملتقى سيخرج شارع النجومي الذي سيشكل الوتر في مثلث مع شارع البلدية و القاعدة عند شارع الامام المهدي، في هذا الشارع الذي ستدخله ايضا من المك نمر، في ذاك الظلام سترشدك الاضواء على طرفي الشارع للمركز الثقافي الالماني او معهد جوتة، فيما حضرت فيه من فعاليات ستتذكر مشاهدة فيلم (على ايقاع الانتينوف) لهشام حجوج كوكا، ضمن فعاليات سودان فيلم فاكتوري، فيلم يوثق للحياة في جبال النوبة و كيف تأقلم اهلها مع الحرب و القصف. سيكتشف صاحب الفيلم القادم اليها من منطقة المحس تشابه لغته النوبية مع لغة اهل النوبة في الجبال. الناس في جبال النوبة بعد قصفهم بالطائرات يخرجون معلنين حبهم للحياة و يؤدون رقصاتهم على الايقاع و الغناء.
ستحمل لك الايام يوما مشوارا لطيفا بنسائم النيل الباردة و مبهجا بالضحك و الغناء و مراقبة وجه الخرطوم الشمالي من قبل مغيب الشمس لحلول مسائها. ستوقفون العربة اسفل كبري توتي لتصعدوه و تصلوا ضفتها مشيا على الاقدام، سيبقى بعضكم بكافتيريا شعبية على النيل تقدم الشاي و القهوة و تلك الاطلالة الرائعة على النيل، ريثما يعود احدكم من امر ما. ستشرب الشاي و انت تنظر للنيل و بقايا نشاط النهار على الضفة المقابلة قرب قاعة الصداقة و برج الفاتح، كورونثيا لاحقا. ستختفي آخر خطوط النهار لتبدأ الاضواء ترقص و تتلألأ على صفحة النيل منعكسة من المباني في مواجهتك. كأنك تتعرف على وجه الخرطوم الشمالي لاول مرة، وجه بهي، ساطع، كنت تمر امامه و تدخل قاعاته فلا تكون قد رأيت منه هذا البهاء. ستستمتع بذلك على انغام ترددها مجموعة من الفتيات العائدات من جامعتهن بقربك. ستسعدن بمشاركتك اياهن احدى اغنيات ثنائي العاصمة، التي ذكرتك ايضا بذات العمر و الحال قبل اعوام عددا.
سيكون اخر ما حضرت بالقاعة حفل محمد منير مع داليا بعزومة من فدوى الذي كان اضاءة باهرة من رتينة في ما يسميه صاحبها عمر عشاري النضال الثقافي، و قبله حفل شرحبيل مع هند و صلاح الذي تحول ختامه الى موكب من مواكب الثورة.
من توتي ايضا ستتساءل و انت تنظر لبرج الفاتح، لا اذكر ايام كانت مكانه حديقة الحيوان، هل نجحوا في بعثرة الوجدان السوداني بازالة ما يجمع الناس، اذا كانت الحديقة مزارا للعوائل و مصنع لذكريات الطفولة، فان برج الفاتح او كورونثيا قد اخذ مكانة في هوية الخرطوم، من خلال الصور التي تنتشر في السوشيال الميديا و القنوات، منه تطل على المشهد الراسم لمكانة الخرطوم، مقرن النيلين.
سأخبرك اين كنت لتجد الكتب الجيدة بالخرطوم، فما كانت المكتبات تواكب الاصدارات الجديدة، بعد اغلاق المكتبة الاكاديمية لدكتور زهير بابكر و لاحقا مكتبة الشريف لمتوكل شريف بشارع الجمهورية قرب محلات جنبرت و مقابل محلات المسرة للاقمشة. عليك بالفرّاشة، عند طرف عمارة ابوالعلا بشارع البرلمان او الجمهورية، او قرب الداون تاون بجامعة الخرطوم، و تذكر البرندات بشارع القصر و خلفه فيما يحيط مدارس كمبوني، كانوا اول من وجدتَ عندهم روايات هاروكي موراكامي، و لكن سارع قبل المغرب فلن تجد قُبيله اثرا لاحد. المنطقة غرب شارع القصر و شرق شارع الحرية، اتخيلها عوالم رواية (ذاكرة شرير) لمنصور الصويم الحائزة على جائزة الطيب صالح، ليس بها من ضوء يدل مارتها ليلا إلّا عند تقاطعي شارعي السيد عبدالرحمن و المستشفى مع شارع القصر حيث المرافق الصحية.
ستدلني سماح على مكتبة حراء، و هي فعلا تشبه الغار، ممر طويل ببناية قرب مول الواحة يقف عليها شاب نحيل طويل، عليم ببضاعته و قيمتها، ما وجدت من كتب أليف شافاق غير(قواعد العشق الاربعون) إلّا عنده. بعدها ستكون مكتبة مول عفراء قد ساهمت في مواكبة الاصدارات الجديدة الى حدٍ ما.
لن يسعفك الوقت قبل الدخول للمحاضرة المسائية بمعهد الدراسات الانمائية قبل المغرب للمرور على الكتب المفروشة قرب الداون تاون و عند خروجك و حلول الظلام سيكون الرجل مع كل الباعة قد غادروا. ستتحرك من هناك من حيث كنت توقف سيارتك ايضا قبل اربع سنوات، لتخرج من المكان الى شارع البلدية، على يسارك على بعد خطوات كانت الحدود الغربية لاعتصام القيادة حيث كنت ترفع يديك فوق ايذانا للتفتيش بالذوق.
ستتعرف عليها لايام و هي لتوها تستيقظ صباحا، لمعاودة طبية لايام، ستزور مستشفى فضيل باكرا ، ستدخل من مدخل صغير قرب مستشفى الشعب يختصر الطريق، لاحقا سيغلق لقربه من حجر الكورونا، ستكتشف ان وسط الخرطوم يستيقظ فيه اولا مرافقو المرضى بالمستشفيات ينفضون عنهم نعاسهم و اغطيتهم و يجلسون على ما فرشوا بالارض من كراتين و ملاءات، سيكون الاستيقاظ علامته ضرب اطراف الكوانين و الهبابات لاسراع اشعال الفحم، اول العاملين حضورا لوسط الخرطوم، ستات الشاي، سيتحلق حولهن مرافقو المرضى شربا للشاي باللقيمات.
تعرفها نهارا و تعرفك، ستخشاها في المساء. ستكتشف بعدها ان ظلامها ليس شريرا و انها تشبه امرأة طيبة انهكها اعتناؤها ببيتها و ضيوفها طوال النهار لتجد في المساء راحتها و بعض الهدوء، اطفأت انوار شوارعها بحثا عن راحة و هدوء و في ذلك تغض الطرف عن اشعال ابنائها لبعض الغرف بالنشاط و الاضواء.
ستفتقد هذه الشوارع و حياتك في البلاد، و انت تمشي في شوارع اللجوء، ستتذكر الامكنة و تتشبث بتفاصيلها، لن تفلتها فان دمروها على الارض فلتبقى الصور في الذاكرة.
في الفيديو المرفق، يقول عاصم الطيب قرشي: تذكروا السودان يذكركم، و ها انا ذي افعل، و قوله اضافة مرهفة لدعوة نقابة الصحفيين، ان كلما تذكرتموه تذكركم و بقى و صمد، كأن الذكر و التذكر فعل صحو و مقاومة، قادر على استعادة المكان.
اذكروا السودان يذكركم، اذكروا الخرطوم تذكركم.
#تذكروا_السودان
#تذكروا_الخرطوم
#لا_تنسوا_السودان