زينب النور.. ترفٌ يطل من قلب المعاناة بقلم.. سماح طه

في زمنٍ يختنق فيه الوطن بين أوجاع الحرب وضياع المأوى والجوع والمرض، يطل من قلب المشهد حدث صاخب بالأضواء والترف، كأنه من عالمٍ آخر. فعالية أنيقة نظّمتها مصممة الأزياء وسيدة الأعمال السودانية زينب النور تحت عنوان #Miss_Elegant13، تحوّلت إلى حديث الناس لا لجمالها فحسب، بل للتساؤلات التي فجّرتها حول معنى الجمال وحدود الوعي في وطنٍ يتألم.
خلال الفعالية، كشفت زينب النور عن ثوبٍ سوداني مرصّع بالألماس بلغت قيمته نحو خمسمئة ألف دولار أمريكي. ثوبٌ باذخ استغرق الإعداد له شهوراً طويلة، بمشاركة نخبة من المصممات وسيدات المجتمع. في الظاهر، هو احتفاء بالأناقة والتراث السوداني، لكن في الجوهر، بدا المشهد صادماً في زمنٍ يئن فيه الناس تحت وطأة النزوح والحرمان.
في الوقت الذي تعرض فيه زينب النور ثوبها المرصّع بالألماس بقيمة 500,000 دولار،
كان مريضٌ هجّرته الحرب يبحث عن جرعة كيماوي لا تتجاوز 200 دولار فقط.
هكذا تتجاور صورتان من وطنٍ واحد:
إحداهما تغرق في الضوء، والأخرى تذوب في العتمة.
وفي المسافة بين الألماس والدواء، تضيع إنسانيتنا شيئاً فشيئاً.
ولتقريب المفارقة أكثر، يمكن تحويل ثمن الثوب إلى لغة الأرقام الواقعية. فالمبلغ الذي يعادل أكثر من خمسمئة ألف دولار أمريكي (حوالي 25 مليون جنيه مصري تقريباً)، يمكن أن يغيّر واقع الخدمة الصحية في السودان لو وُجّه في الاتجاه الصحيح.
بهذا المبلغ يمكن شراء ما يقارب 2,500 جرعة كيماوي، أو أكثر من 15 جهاز تنفّس طبي متطور، أو ثلاثة أجهزة أشعة مقطعية (CT scan) متوسطة الكفاءة، أو عشرات أجهزة الموجات فوق الصوتية المحمولة التي تخدم العيادات الميدانية في مناطق النزوح.
بل يمكن أن يؤسَّس به مركز تشخيص متكامل يخدم آلاف المرضى سنوياً، في بلدٍ يعاني من انهيار منظومة العلاج وانعدام أجهزة التشخيص في معظم ولاياته.
فكم من الأرواح يمكن إنقاذها بثمن ثوبٍ واحد؟
وكم من المستشفيات يمكن أن تُجهَّز بنصف هذا البريق؟
وهل سأل رجال الأعمال أو الشركات الراعية التي تموّل هذا البذخ أنفسهم عمّا قدّموه لوطنٍ يتنفس على حافة الألم؟
إنها معادلة أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية، عنوانها البسيط: بين الألماس والدواء، أيّهما أولى بالإنفاق؟
وهنا يبرز سؤال آخر لا يقل عمقًا:
هل القيمة الجمالية التي قدّمتها زينب النور تكمن حقًا في الألماس، أم في قدرتها على ابتكار رؤية فنية تعبّر عن الهوية السودانية؟
فإن كان الجمال يقاس بالبريق وحده، فكل واجهة متجر يمكن أن تصبح معرضًا للفن.
أما إن كان الجمال رؤية وصدقًا ووجدانًا، فلابد أن يكون الفن أقرب إلى الناس، لا أبعد عنهم.
أما حضور الفنانة هدى عربي في الإيفنت، فقد عكس هذه المفارقة بوضوح. فهي التي تلهث وراء المظاهر وتغرق في التفاصيل السطحية، بينما تدّعي الانشغال بالثقافة والفن. ولو كان الفن السوداني يؤدي دوره الحقيقي اليوم كأداة للتنوير والتغيير، لما اكتفى الفنانون بالتصفيق أمام الألماس، بل لوقفوا ليذكّروا الناس بقيمة الوعي في وجه الزيف. لكنّ المشهد الفني، للأسف، صار أسير “الكود دريس” والمظاهر أكثر من القضايا والرسائل.
ليس القصد هنا النيل من زينب النور كمصممة، فهي من الأسماء التي اجتهدت لتقديم صياغات عصرية للثوب السوداني، لكنّ السؤال الملحّ هو: هل يليق بكل هذا البذخ في زمنٍ يعاني فيه الوطن؟
حين يغيب الوعي الجمعي، تصبح الأضواء بديلاً عن المعنى، ويغدو الثراء رسالة في ذاته، لا وسيلة للإبداع أو العطاء.
إن الموضة ليست جريمة، لكنها تتحول إلى عبءٍ أخلاقي حين تنفصل عن واقع الناس. الجمال الحقيقي لا يُقاس ببريق الألماس ولا بعدد الكاميرات، بل بمدى صدقه في التعبير عن الروح الإنسانية. فالثوب الذي يستحق الإعجاب هو ذاك المنسوج بخيوط الكرامة، لا بخيوط الرفاهية.
فضلتُ أن أكتب عن هذا الحدث بعد أن يهدأ ضجيج الترند، لأتأمل ما وراء البريق وأقرأ ما بين السطور. فحين ينخفض صوت الإعجاب اللحظي وتخفت الأضواء، يبقى السؤال الأخطر:
هل هذا ما نريده من رموز الجمال السوداني؟
هل كان المقصود تكريم الزيّ الوطني أم استعراض الفوارق الطبقية على منصة أنيقة؟
ولمن شاركن في هذا العرض من المصممات وسيدات المجتمع، أترك السؤال معلقًا على أطراف الضمير:
هل كنتن مبدعاتٍ بحق، أم مجرد “تمومة جرتق” في مشهدٍ أريد له أن يُبهر لا أن يُعبّر؟