من مها التلب إلى لينا يعقوب… جريمة اسمها الحقيقة …بقلم” سماح طه “ – التايمز نيوز
رأي

من مها التلب إلى لينا يعقوب… جريمة اسمها الحقيقة …بقلم” سماح طه “

في بلدٍ أنهكته الحروب وتراجعت فيه القيم، يصبح الصحفي هدفاً مباشراً، وتغدو الحقيقة جريمة كبرى. ما حدث للزميلة الصحفية لينا يعقوب ليس مجرد حادثة عابرة، بل مؤشر صارخ على أن الصحافة السودانية تُساق بخطوات متسارعة نحو مثواها الأخير، وأن الحريات تُشيَّع في صمتٍ موجع.

رغم أهوال الحرب وقسوة الظروف، اختارت لينا أن تبقى في السودان، أن تعيش تفاصيل المأساة مع شعبها، وأن تُوصل صوت الحقيقة إلى العالم. لم تبحث عن أمانٍ شخصي خارج الحدود، ولم تتوارَ خلف المسافات، بل وقفت وسط الرماد لتُعيد صياغة المشهد كما هو، خالياً من التزييف.

لكنها لم تكن تعلم أن السؤال عن مكان الرئيس المخلوع سيُعد تهديداً أمنياً، وأن مجرد الاقتراب من دائرة نفوذه المظلمة ما يزال من المحظورات. لم تكن تدري أن المخلوع، رغم خلعه، لم يتخلّ عن قبعة النفوذ، وأن أسراره ما تزال عصية على التداول وكأنها أسرار دولة قائمة.

ولائحة المبررات التي صاحبت قرار إيقافها لم تكن سوى دليل واضح على أن الصحافة الحرة في السودان باتت تُعامل كجريمة نكراء. كنت أقرأ بين السطور أن استهداف لينا قادم لا محالة، ليس لضعف في مهنيتها، بل لأنها شجاعة ومهنية في وقت يُراد فيه للصحفي أن يكون تابعاً خانعاً.

وما جرى مع لينا اليوم، ليس جديداً على المشهد، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من استهداف الصحفيين. فقد سبقتها الزميلة مها التلب التي واجهت حملة ممنهجة للتشكيك في نزاهتها المهنية، فقط لأنها أصرت على قول الحقيقة، قبل أن تُغلق السلطات مكتب قناة الشرق في السودان. إنها القاعدة نفسها: كل من يحاول أن يكتب بضمير ويقول الحقيقة، يُدفع خارج المشهد.

ولم يكن مستغرباً أن يكون وراء هذا التضييق وزيرٌ أعيسر، لا يُرتجى منه سوى العبث، ولا يُنتظر منه إلا إغلاق النوافذ التي قد تدخل منها نسائم الحرية. فالسلطة التي تخشى الحقيقة، لا تملك سوى أن تحارب حاملها.

يا لينا…
لا تحزني يا زميلة، فهذا زمن المهازل وانهيار القيم. أكثر ما أغضبهم منك لم يكن خطأً مهنياً، بل مهنيتك نفسها، احترامك لقدسية المهنة، وإصرارك على أن تصل المعلومة الصحيحة كما هي، بلا رتوش ولا تزييف.

إن التضامن معكِ اليوم ليس تضامناً مع شخصك فحسب، بل مع معنى الصحافة الحرة نفسها، ومع قيمة الحرية التي نحاول أن نتشبث بها في زمنٍ يُراد له أن يُساق بالكامل إلى العتمة.

ومن مها التلب إلى لينا يعقوب، يمتد خيط واحد من الصمود والكرامة المهنية، خيط يربط بين كل صحفي اختار أن يكون شاهداً لا شريكاً في الجريمة. قد يغلقون مكاتب، وقد يوقفون أقلاماً، لكنهم لن يتمكنوا من إطفاء جذوة الحقيقة. فالتاريخ لن يذكر أسماء جلادي الكلمة، لكنه سيحفظ جيداً أسماء الذين دافعوا عنها حتى اللحظة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى