“إغلاق باب الترشح في الاتحادات الرياضية السودانيةوظاهرة الفوز بالتزكية”..بقلم د/ كمال محمد الأمين
في رحاب الملاعب والمجالس في زمن المحنة

لقد شهدت الساحة الرياضية السودانية في الآونة الأخيرة ظاهرة لافتة للنظر، تستحق الوقوف عندها بعين الباحث المتفحص والناقد المتأمل، ألا وهي إغلاق باب الترشح في عدد من الاتحادات الرياضية المحلية، وفوز المجموعات القائمة بالتزكية دون منازع أو منافس. هذه الظاهرة، التي قد تبدو للوهلة الأولى مسألة إدارية بسيطة، تحمل في طياتها دلالات عميقة حول حال الرياضة في بلد يمر بأزمة وجودية، وطبيعة المشاركة في إدارة الشأن الرياضي وسط ظروف استثنائية، والتحديات التي تواجه الكفاءات الطامحة للإصلاح والتطوير في زمن الحرب والمحنة.
المشهد الراهن: انتخابات بلا منافسة في ظل الأزمة
بحسب ما رصدته المصادر الإعلامية المتاحة، فقد فاز معتصم جعفر سر الختم برئاسة اتحاد كرة القدم السوداني بالتزكية لدورة جديدة تنتهي في 2029، وهو ما يعكس نمطاً متكرراً في انتخابات الاتحادات الرياضية السودانية. هذا المشهد، الذي يتكرر في أتحادات رياضية متعددة، يثير تساؤلات جوهرية حول أسباب هذا العزوف عن المشاركة في العمل الرياضي الإداري، خاصة في بلد يشهد حرب أهلية بدأت في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 ما زالت مستمرة حتى الآن.
الأسباب المحتملة: بين الحرب والظروف الاستثنائية
أولاً: تأثير الحرب والأزمة السياسية
إن أبرز ما يمكن أن نعزو إليه هذه الظاهرة هو الحرب المدمرة التي يشهدها السودان منذ أبريل 2023، والتي بدأت في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها رئيس مجلس السيادة الإنتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). هذه الحرب الضارية أدت إلى تفاقم الأزمات القائمة في البلاد، بما في ذلك عدم الاستقرار السياسي والصعوبات الاقتصادية وأكبر أزمة نزوح داخلي في العالم.
في ظل هذه الظروف المأساوية، يصبح من الطبيعي أن تتراجع الأولويات الرياضية لصالح الحاجات الأساسية للبقاء. فعندما تدوي المدافع ويعم الدمار، تصبح مسائل إدارة الاتحادات الرياضية ترفاً لا يمكن لأحد أن يوليه الاهتمام المطلوب. كما أن انشغال الكفاءات المحتملة بالهروب من مناطق النزاع أو البحث عن الأمان لعائلاتهم يجعل التفكير في العمل الرياضي الإداري أمراً بعيد المنال.
ثانياً: تداعيات اقتصادية واجتماعية
لقد أدت الحرب إلى تغيرات في السلوك المالي، بما في ذلك الوصول إلى الخدمات المالية، وإدارة الدخل، والتكيف مع الظروف الاقتصادية خلال فترة الصراع. هذه التغيرات الجذرية في الأوضاع الاقتصادية للأفراد والمؤسسات تجعل العمل التطوعي في الاتحادات الرياضية، والذي يتطلب الاستقرار المالي والوقت الكافي، أمراً صعب المنال.
إضافة إلى ذلك، فإن البنية التحتية الرياضية في البلاد تعرضت لأضرار بالغة جراء النزاع، مما يقلل من جاذبية العمل في المجال الرياضي للكفاءات الطامحة التي ترى أن جهودها قد تذهب سدى في ظل غياب الإمكانيات المادية الأساسية.
ثالثاً: نزوح الكفاءات والهجرة
مع أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم التي يشهدها السودان، فإن العديد من الكفاءات المتخصصة في المجال الرياضي قد نزحوا من مناطقهم الأصلية أو هاجروا خارج البلاد بحثاً عن الأمان والاستقرار. هذا النزوح الجماعي للكفاءات يترك فراغاً كبيراً في المجال الرياضي، ويجعل من الصعب العثور على مرشحين مؤهلين لإدارة الاتحادات الرياضية.
اللوائح والقوانين الحاكمة للأندية السودانية
إن فهم الإطار القانوني الحاكم للعمل الرياضي في السودان أمر ضروري لتحليل هذه الظاهرة. استناداً إلى “القواعد العامة للاتحاد الرياضي السوداني لكرة القدم لسنة 2010م تعديل لسنة 2011م” التي صدرت عملاً بأحكام المادة 12/ 6 /د من قانون هيئات الشباب والرياضة لسنة 2003، نجد أن هناك إطاراً قانونياً منظماً للعمل الرياضي في البلاد.
أولاً: البنية القانونية الأساسية
يستند تنظيم العمل الرياضي في السودان إلى قانون هيئات الشباب والرياضة لسنة 2003، والذي يمنح الاتحادات الرياضية سلطة وضع لوائحها الخاصة بما يتماشى مع الأحكام العامة للقانون. هذا الإطار القانوني، رغم مرونته، قد يحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء التطورات الأخيرة والظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد.
ثانياً: التحديات في التطبيق
في ظل الحرب الدائرة والوضع السياسي غير المستقر، تواجه الهيئات الرياضية تحديات جمة في تطبيق هذه القوانين واللوائح. فالإشراف الحكومي على انتخابات الاتحادات، والذي ينص عليه القانون، قد يكون معطلاً أو ضعيفاً في ظل انشغال الدولة بأولويات أخرى أكثر إلحاحاً.
ثالثاً: الجوانب المالية والإدارية
تنص اللوائح على التزامات مالية وإدارية محددة للاتحادات الرياضية، بما في ذلك إعداد الحسابات المالية السنوية وتدقيقها. في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والحرب المستمرة، قد تكون هذه الالتزامات عبئاً إضافياً على المرشحين المحتملين، خاصة وأن مصادر التمويل التقليدية للأنشطة الرياضية قد تكون متضررة أو معطلة.
التوصيات والحلول المقترحة: نحو نهضة رياضية في زمن المحنة
في المجال النظامي والقانوني
يتطلب الأمر مراجعة شاملة للأنظمة واللوائح الحاكمة للعمل الرياضي، بما يتناسب مع الوضع الاستثنائي الراهن. ينبغي تبسيط إجراءات الترشح وإزالة العوائق غير المبررة، وإتاحة المشاركة الإلكترونية عن بُعد للمرشحين النازحين أو المقيمين خارج مناطق انعقاد الانتخابات.
كما يُستحسن وضع آليات استثنائية لإدارة الاتحادات في زمن الحرب، تتضمن تسهيلات في الالتزامات المالية والإدارية، وتمديد الفترات الانتخابية عند الضرورة.
في المجال التنموي والتأهيلي
ثمة حاجة ماسة لبرامج تنموية لإعداد الكفاءات الرياضية الإدارية، تشمل التدريب على أسس الإدارة الرياضية الحديثة في ظروف الأزمات. يمكن أن تتم هذه البرامج عبر وسائل التعليم الإلكتروني والتدريب عن بُعد، بما يتناسب مع ظروف النزوح والتشتت التي يعيشها المجتمع السوداني.
في المجال الاجتماعي والنفسي
لا يمكن إغفال الأهمية النفسية والاجتماعية للرياضة في أوقات الأزمات. فالأنشطة الرياضية يمكن أن تكون بلسماً شافياً للمجتمع المتألم، ووسيلة لإعادة بناء الروح المعنوية والتماسك الاجتماعي. لذا ينبغي النظر إلى إدارة الاتحادات الرياضية ليس فقط من منظور إداري، بل من منظور المسؤولية الاجتماعية والوطنية.
خاتمة: بين الواقع والأمل
إن ظاهرة إغلاق باب الترشح وفوز المجموعات بالتزكية في الاتحادات الرياضية السودانية ليست مجرد مسألة إدارية عابرة، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بالوضع العام في البلاد. فالحرب الدائرة، بكل ما تحمله من دمار ونزوح ومعاناة، قد ألقت بظلالها على جميع مناحي الحياة، ومن بينها المجال الرياضي.
غير أن هذا الواقع المرير لا ينبغي أن يكون مبرراً للاستسلام أو التقاعس. فالتاريخ يعلمنا أن الشعوب العظيمة هي التي تنتصر على محنها بالعزيمة والإرادة، وتحول أزماتها إلى فرص للنهوض والتقدم. والرياضة السودانية، بتاريخها العريق وإنجازاتها المشهودة، قادرة على تجاوز هذه المحنة والعودة إلى دورها الريادي في المحيط الإقليمي والقاري.
إن الأمل معقود على الكفاءات السودانية، داخل الوطن وخارجه، لتحمل المسؤولية والمساهمة في إعادة بناء المنظومة الرياضية على أسس سليمة. وما هذا التقرير إلا دعوة للتفكير والتأمل في سبل النهوض بالرياضة السودانية، والتأكيد على أن المحن، مهما اشتدت، لا يمكن أن تكسر إرادة شعب عرف الكفاح والصمود عبر التاريخ.
“إن المحن لا تكسر إرادة الشعوب، بل تشحذها وتقويها، فما دام في الأمة نبض للحياة، فالأمل باق لا يموت”