الآن.. الآن وليس غداً (٢)بقلم: محمد الحسن محمد نور – التايمز نيوز
رأي

الآن.. الآن وليس غداً (٢)بقلم: محمد الحسن محمد نور

.

(1)
إن التصريحات التي أدلى بها الرئيس ترمب عقب لقائه بولي العهد السعودي، والتي سبقتها تهيئة واضحة عبر تصريحات وزير الخارجية، بدت وكأنها تعلن مسارًا أمريكيًا جديدًا بخصوص تغيير خطط واشنطن تجاه الخرطوم بناءً على طلب سعودي. وقد رحّب رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، بجهود الرياض وواشنطن لإحلال السلام، مؤكداً الاستعداد للانخراط الجاد. وفي المقابل، شددت الرياض على موقفها الداعم لاستقرار السودان وشعبه لتجاوز الأزمة.

(2) في ذلك الوقت الحساس أطلقنا دعوتنا للحكومة السودانية بأخذ زمام المبادرة. فليس سراً أن زيارة ولي العهد السعودي للبيت الأبيض حملت بالنسبة للرئيس ترمب هدفين لا ثالث لهما: أولاً التطبيع مع إسرائيل بما يضمن له إحكام القبضة على كامل الشرق الأوسط، وثانيًا التريليونات السعودية اليانعة التي يسيل لها لعابه. أما موضوع حرب السودان فكان ـ على ما يبدو ـ أحد الشروط السعودية التي أراد ولي العهد إضافتها إلى قائمة إنجازاته.

(3) لقد بدا واضحاً أن ترمب كان يسعى لإرضاء ولي العهد، ويصوره كصاحب الفضل الأوحد في لفت نظره للأزمة السودانية؛ كما في قوله: “ولولا سمو الأمير محمد بن سلمان… لبقي الرئيس الأمريكي جاهلاً بهذه الخناقة السودانية”، إلى جانب تساؤله إن كان ما يجري “جنونًا”، واعتباره السودان “بلداً بلا حكومة”.

(4) مثل هذه العبارات ذات الطابع المتناقض أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت تحمل شيئًا من المسخرة، أو التهوين من طبيعة الأزمة، أو ربما كانت مقصودة لخلط الأوراق وترك الباب مواربًا لما قد يحدث لاحقاً، خصوصًا مع توقع الضغوط من الحلفاء المختلفين داخل الرباعية، كلٌ بحسب مصلحته.

(5) وما إن بدأ هذا التوجه السعودي–الأميركي يكتسب زخمه وينال ترحيب رئيس مجلس السيادة، حتى بدأ التراجع يحدث بالفعل. ويبدو أن الخلاف داخل الرباعية تجدد مرة أخرى، فانعكس مباشرة في تغيير النبرة.

(6) فقد عاد المستشار مسعد بولس بتصريحات تناقض ما قاله وزير الخارجية، وبعض ما صرح به الرئيس ترمب نفسه. إذ تحولت تصريحاته مجددًا لصالح الدعم السريع، الذي كان قد اتهمه قبل أيام فقط بارتكاب إبادة جماعية. وأكد وزير الخارجية ماركو روبيو أن واشنطن تعمل على قطع امتدادات السلاح التي تصل إلى الدعم السريع عبر بعض الحلفاء الإقليميين، بل وذهب أبعد حين تحدث عن إمكانية تصنيفه “منظمة إرهابية” إذا كان ذلك سينهي الحرب، وهو مطلب ظل رئيس مجلس السيادة يسعى إليه.

(7) لكن المستشار هذه المرة لم يشر إلى قطع الإمدادات، بل عاد إلى مساره القديم متحدثاً عن “هدنة إنسانية” و”إدخال المساعدات”، مختتماً بالدعوة للعودة إلى طاولة المفاوضات بين “طرفي الصراع”، بما يعني العودة إلى المساواة بين المليشيا والجيش السوداني.

(8) الأخطر من ذلك أن واشنطن تعلن “خطوطاً حمراء” بعدم السماح بعودة الإسلاميين للحكم. وإلى هذا الحد يمكن القول إن التعويل على مخرجات اجتماع ولي العهد السعودي مع الرئيس ترمب يظل رهاناً ضعيفاً، في ظل ضعف الثقة بأي وعود أو تفاهمات مع رئيس لا يمكن التنبؤ بمواقفه.

(9) خصوصاً وأن سابقة مشابهة شهدناها علناً، عندما صفق ولي العهد ذاته للرئيس ترمب ذاته، يوم أعلن ـ أمام كاميرات العالم ـ رفع العقوبات عن سوريا وتنصيب أحمد الجولاني “الإرهابي سابقاً” رئيساً للدولة السورية. فهل استقرت سوريا اليوم؟ وهل كفت إسرائيل عن تدمير بنيتها التحتية وجيشها؟

(10) إن إثارة موضوع منع عودة الإسلاميين للحكم ـ رغم عدم اعتراضي الشخصي عليه ـ تعني عملياً تراجعاً كاملاً عن المسار الذي بدأته الرياض، ربما بفعل تجدد الخلافات داخل الرباعية، وهي خلافات تُغذّيها إسرائيل بما يخدم مشروعها الأكبر الذي لا تستطيع واشنطن الوقوف أمامه.
ومهما يكن من أمر، فإن ما يجب التأكيد عليه بلا تردد هو أن واشنطن لا تملك شرعاً ولا قانوناً أي حق في تعيين حكومة للسودان، أو تحديد من يحق له المشاركة في السلطة ومن يُمنع منها. فالسودان ليس ولاية أمريكية، ولا يُدار بتوجيهات من خارج حدوده، ولا يمكن لأي دولة ـ مهما كان نفوذها ـ أن تملي على السودانيين شكل حكمهم أو من يتولاه. إن حق اختيار الحكومة هو ملك حصري للشعب السوداني، لا يقبل الوصاية أو المصادرة.
هذا، وقد سبق أن قدمت أقتراحا بهذا الخصوص ضمن مقالى السابق.

(11) كما أن تصريحات مسعد بولس تزامنت مع حديث أمريكي عن قرب إعلان “الإخوان المسلمين منظمة إرهابية أجنبية”. وفي تقديري أن ظهور هذه اللهجة الآن ليس مصادفة، بل جزء من حرب نفسية للضغط على قادة الجيش السوداني لتليين موقفهم وقبول التفاوض مع الدعم السريع.

(12) وهنا تجدر الإشارة إلى أن العداء الأمريكي للإخوان المسلمين ليس مطلقاً، بل براغماتي متقلب، يتراوح أثره بين الإدارات. وليس أدل على ذلك من تسويق واشنطن لأحمد الجولاني نفسه، رغم تصنيفه السابق. فالعلاقة تحكمها مصالح متشابكة، وضغوط الحلفاء، وحسابات الأمن القومي، وليس مبادئ واضحة.

(13) إن تصريحات المستشار، والخطوط الحمراء المزعومة، كلها تؤكد أن التوجه الجديد لحل الأزمة بدأ يتراجع قبل أن “يبرُد الحدث”.

(14) ولكن قبل أن تنطفئ الفرصة، كان ـ وما زال ـ يمكن للحكومة بأخذ زمام المبادرة أن تُرجّح كفة وقف إمدادات السلاح للمعتدين، لأنه لا سبيل لوقف الحرب بالحديث عن هدن إنسانية غالباً ما تكون مشبوهة.

(15) وبناءً على هذا التحليل، نعيد التأكيد على أن الملاذ الوحيد لحل الأزمة وإبعاد التدخلات هو ما انتهى إليه مقالنا السابق: أخذ زمام المبادرة والتوجه بثبات ـ ودون أي وساطة ـ إلى حل المشكلة مع داعمي المليشيا.

(16) وفي الوقت نفسه، المضي قدماً في توحيد الجبهة الداخلية ورتق الصف السوداني. فترتيب الجبهة الداخلية ـ الذي لا يمكن دونه إنجاز أي خطوة ـ يبدأ بإبعاد الدعم السريع، وهو ما يوقف الحرب ويفتح الباب لغرس بذرة الإدارة التكنوقراطية المستقلة التي تمهد للدولة الفيدرالية القادرة على إنهاء جذور التناحر.

(17) وعليه، فإن دعوتنا للحكومة الحالية تظل قائمة: الحوار المباشر مع داعمي المليشيا، بما يشمل ممثل الإدارة الأمريكية، لإقناعهم بضرورة إبعاد المعتدي أولاً.. ثم لكل حادث حديث.

هذه هي البداية الحقيقية التي لا تحتمل التقاعس.
الآن.. الآن وليس غداً. فما زالت الفرصة مواتية..

محمد الحسن محمد نور
٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥
—-‘
رابط المقال السابق ،،

ما الذي يحدث في أمريكا؟ هل تتحوّل إلى ملكية أو إمبراطورية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى