لعنة الباز بقلم ” سماح طه” – التايمز نيوز
رأي

لعنة الباز بقلم ” سماح طه”

لأول مرة لا أجد تعبيرًا أبدأ به كتابتي، لأن الحديث عن الأستاذ عادل الباز لا يُختصر في كلمات.
هذا الرجل لا يعرفه حقًّا إلا من عمل معه، ومن عاش تفاصيل يومه المهني في صالة تحريرٍ تفيض بالجدية والإنسانية في آنٍ واحد.

في الوقت الذي خذلني فيه الأستاذ حسين خوجلي وتبرأ مني بعد نشر تحقيقٍ عن الفساد في تلفزيون السودان بصحيفتة الوان ، وأصدر قرارًا بفصلي فورًا، وتم فتح بلاغ في مواجهتي ، كنت أخرج من نيابة الصحافة مثقلةً بالخذلان، لأجد الباز يفتح أمامي بابًا جديدًا من العمل، بكرمٍ وشجاعةٍ نادرين، وكأنه يعرفني منذ زمن. لم يتردد لحظة في الوقوف إلى جانبي، واحتضنني كصحفية لا كغريبة، مؤمنًا بأن الصحافة تستحق أن تُمارَس بحريةٍ لا تُرتهن لأهواء أحد.

منذ تلك اللحظة، بدأت رحلتي في مدرسة الباز، وهي بلا شك من أصعب وأجمل التجارب الصحفية على الإطلاق.
أن تعمل مع الأستاذ عادل الباز يعني أن تدخل امتحانًا يوميًا للوعي والانضباط المهني.
في صالة التحرير التي يديرها، تشعر أنك صحفي حقيقي، لك رأيك وشخصيتك المعتبرة. يمكنك أن ترفع يدك في اجتماع التحرير وتنتقد حتى رئيس التحرير نفسه، ولن تُقمع. بل قد ينتهي الاجتماع وقد اقتنع الباز برأيك، لتدرك أنك ساهمت في تشكيل ماكيت الصحيفة للغد.

لكن… ويحك من الباز إن “كلفت” المادة في المساء أو تهاونت في تحريرها!
ففي صباح اليوم التالي، سيشبعك توبيخًا حادًا يجعلك تتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتك. غير أنك، حين تهدأ العاصفة، تكتشف أنك خرجت من الموقف أكثر وعيًا وصلابة.

لدى الباز قدرة نادرة على فصل العام عن الخاص؛ فهو قد يختلف معك، لكنه لا يخلط الأوراق.، هو صديق الجميع من اليسار اليمين يستقبل مكتبه جميع الوان الطيف السياسي و
يناصر الصحفي حتى لو خالفه الرأي، ويتحمل المسؤولية عنه بكل شجاعة.
ولا أنسى يوم جاء المرحوم صابر من نيابة الصحافة ودخل صالة التحرير، فبادره الباز ضاحكًا:

> “أكيد جاي لي سماح!”
فأجابه صابر ممازحًا:
“هو في غيرها بيعذبك!”
وبعد أن سلّمني أمر استدعاءٍ للنيابة، ناداني الباز إلى مكتبه وقال لي بهدوءٍ وثقة:
“ما تتضايقي… لأن الصحفي البودي النيابة دة، صحفي شاطر.”

تلك الجملة لم تكن مجرد طبطبة، بل كانت درعًا معنويًا جعلني أقف أكثر ثباتًا في وجه العاصفة.
ومثلها كثير من المواقف التي لا تُنسى، حين كان يقف إلى جانب صحفييه في الشدائد، مدافعًا عنهم كأبٍ غيور على أبنائه.

ولا أنكر أنني والباز نختلف في وجهات النظر، وربما في التوجهات، لكنه لا يضيق بالاختلاف، بل يراه جزءًا من ثراء المهنة.
يستمع، يجادل، يبتسم، وأحيانًا يقتنع، وكأنما يؤمن بأن الصحافة بلا اختلافٍ هي صحافة بلا حياة.

أما الأصعب، فهو أن تفكر بعد تجربة كهذه في العمل مع أي مؤسسةٍ أخرى.
لأن من يُصاب بـ «لعنة الباز» لا يستطيع الصبر على رؤساء التحرير الذين يضيقون بالرأي المخالف أو يقدّمون مصالحهم الخاصة على مصلحة المهنة.
فشجاعة الباز وحرصه على الكلمة لا يُعلى عليهما، حتى لو كلفه ذلك منصبه أو جعله يتنازل عن قيادة الصحيفة.

ولا يزال عادل الباز حتى اليوم يساندني ويهتم بما أكتب، يقرأ، ويعلّق، وكأنه لا يزال رئيس التحرير الذي يرعى أبناءه بضميرٍ حي.
وجوده في حياتي المهنية هو بمثابة بوصلةٍ تُذكّرني دومًا بأن الصحافة ليست مجرد حرفة، بل شرف ومسؤولية.

إنها حقًا لعنة جميلة تلك التي أصابتني، لأنني تعلّمت منها أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الكلمة حين تكون صادقة قد تُكلفك كثيرًا، لكنها تبقى أغلى ما تملك.

أتمنى أن تجمعني بك الأقدار من جديد، أيها الباز…
حتى لا أفقد الأمل في صلاح الحال، الذي أصبح — في هذا الزمان — ضربًا من المحال.
وقريبًا، سأنجح في إقناعك أن تأتي إلينا في الضفة الأخرى.
واقول ليك حاجة ” لا للحرب” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى