فضيل .. وعلب اللالوب حين يتحول الضحك إلى تنميط… ويفقد الفن رسالته..بقلم ” سماح طه” – التايمز نيوز
رأيرياضة

فضيل .. وعلب اللالوب حين يتحول الضحك إلى تنميط… ويفقد الفن رسالته..بقلم ” سماح طه”

يقول أهلنا: “ما تسوي للالوب علب”، أي لا تُعطِ قيمة لشيء لا يستحق، ولا ترفع ما هو عادي إلى مصاف النفيس. وهذه العبارة تنطبق تمامًا على شخصية “فضيل”، ذلك النموذج الكوميدي الذي احتل مساحات واسعة في وجدان الناس، حتى صار وكأنه الممثل الوحيد لابن الريف السوداني.

لكن أي ريف هذا الذي يشبه ما يقدمه المدعو عبد الله عبد السلام الشهير بـ”فضيل”؟ أي عبط ذاك الذي يُراد له أن يُختصر في صورة “ود البلد”؟ إن أبناء الريف السوداني لم يكونوا يومًا عبطاء، ولم يخرج منهم الغباء، بل على العكس، كان الريف وما يزال منجم العبقرية، ومنبت النوابغ والعقول المتقدة. مدارس الأطراف خرّجت العلماء والمبدعين والساسة والأدباء الذين وضعوا السودان في قلب المشهد العربي والأفريقي.

الطريقة التي يتحدث بها “فضيل” ليست من لهجات الريف في شيء؛ فهي لغة مصطنعة، تتعمد الغباء وتقتات على التهكم الرخيص. الكوميديا الحقيقية ترفع الذائقة، تكشف التناقضات بذكاء، وتفتح نوافذ وعي جديدة، لا أن تختزل مجتمعات بأكملها في “عبط” لا يليق.

والمشكلة ليست في “فضيل” وحده، بل في أننا ـ نحن الجمهور ـ سمحنا بأن تمر هذه الصورة دون مساءلة. ضحكنا وتفاعلنا وأعدنا إنتاجها، حتى أصبحت علامة، بينما كان الأولى أن نرفض التنميط، أن نحتج على تشويه صورة الريفي البسيط الذي يُقدَّم كأنه مجرد ساذج لا يعرف من أمر دنياه شيئًا.

وعندما يتحدث “فضيل”، الأفضل أن لا نتفاعل، لأن أي رد أو أخذ ورد معه يكرّس وجوده، ويمنحه قيمة لا يستحقها. إن ما يقدمه من عبط كوميدي لا يخدم المجتمع ولا يقدمه، بل يخصم من رصيده ويعيد إنتاج أوهام عن البساطة وكأنها سذاجة.

هذا “الفضيل” لا يعرف معنى الثورة ولا طعم الحرية، ومع ذلك يقدّم نفسه كفنان. لكن كيف يكون الفنان فنانًا وهو يتنكر لأبسط قيم الفن؟ إن الفنون في جوهرها ثورة، وكل عمل فني حقيقي هو مقاومة ضد القبح، وضد التسلط، وضد تغييب العقل. الفنان الثائر هو من يضيء طريق الوعي، من يقف مع الناس حين يواجهون الرصاص والقمع، لا من يبارك الدكتاتوريات أو يتغذى من فتاتها.

فنانٌ يشجع الطغيان لا يُحسب من زمرة الفنانين، بل من زمرة المهرجين. وما يقدمه “فضيل” من عبث لا يُسجَّل في رصيد الفن السوداني، ولا يرقى لأن يُذكر في سجل المبدعين الذين وهبوا أرواحهم وأقلامهم وأصواتهم للشعب. الفن الذي ينحاز للطغيان ليس فنًا، بل خيانة مقنّعة بضحك زائف.

يقول الشاعر:
“فإذا أتتك مزمتي من جاهل، فهي الشهادة لي بأني كامل”.

ومن هو “فضيل” حتى نرد عليه أو نُقيم وزناً لما يقوله؟ إن ثورة ديسمبر، هذه الثورة العظيمة التي فجرت وعي شعب كامل، لا تنتظر تقييمًا من شخصية كاريكاتيرية صُنعت للضحك السطحي. ثورة ديسمبر تُقاس بعظمة دماء شهدائها، وبوعي شبابها الذين هتفوا في وجه الطغيان، وبالحلم الذي لا يزال متقدًا رغم العثرات.

نحن لا نحتاج إلى “فضيل” ليخبرنا من نحن. نحن أبناء الريف والمدن، أبناء القرى والأطراف، نحن الذين خرجنا من رحم الأرض لنصنع المعجزات. نحن الذين نصيغ خطابنا ببلاغة، ونعبر عن همومنا بذكاء، ونجابه قسوة الحياة بروح السلام وصلابة الأمل.

فالريف السوداني، الذي يُراد اختزاله في مشاهد “العبط الكوميدي”، هو في حقيقته ذاكرة للسلام، مكان يتجاور فيه الناس ببساطة وطيبة، تظلله أشجار اللالوب والنيم، وتوحده مواسم الزرع والحصاد، وأغنيات البنات عند الضفاف. في الريف يولد السلام كقيمة فطرية، لا كشعار سياسي، إذ يعرف الناس هناك أن لا حياة بلا سلام، ولا استقرار بلا وفاق.

وهنا تكمن المساءلة الحقيقية: هل ما يقدمه “فضيل” يرقى لأن يكون فنًا يرتقي بالواقع ويضيف للوعي الجمعي؟ أم أنه مجرد تنميط يُفرغ الفن من رسالته، ويحوّله إلى وسيلة تسطيح وإعادة إنتاج للصور المشوهة؟ هذه الأسئلة لا بد أن تُطرح، وأن تجد صداها لدى النقاد والمهتمين، لأن مسؤولية الفن لا تقل عن مسؤولية السياسة، والفنان الذي يضلّل الناس لا يقل خطرًا عن السياسي الذي يخدعهم.

يا نقاد الدراما، أنتم الآن أمام مسؤولية كبيرة. فبرأيكم الواضح تكونون قد أخلَيتم مسؤوليتكم أمام هذا الشعب العظيم. قولوا لنا بصدق: ما هذا الذي يقدمه عبد الله عبد السلام الشهير بـ”فضيل”؟ أهو فن ينهض بالوعي ويُسهم في التنوير؟ أم هو عبثٌ يتقن التنميط ويستثمر في جهل الناس؟

إنها لحظة مواجهة لا تحتمل المجاملة، لأن الفن الذي لا ينصر الإنسان لا يستحق أن يُسمى فنًانا …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى