“الفن لا يُهاجر تحية لتجمع الفنانين السودانيين في مصر”بقلم ..”سماح طه” – التايمز نيوز
رأي

“الفن لا يُهاجر تحية لتجمع الفنانين السودانيين في مصر”بقلم ..”سماح طه”

في خضم المآسي والشتات الذي فرضته الحرب، كان من الممكن أن يخفت صوت الإبداع، وأن يغيب الفن عن المشهد، وأن تتضاءل المساحات التي كانت تجمعنا كأمة في لحظة وجدان واحدة. لكن تجمع الفنانين السودانيين في مصر قال كلمته، ورفض الغياب.
لقد تجاوز عدد الفعاليات التي نظّمها الفنانون السودانيون منذ وصولهم إلى أرض مصر حاجز المئة، حملت في طياتها صوت السودان، وذاكرة شعب، ومعاناة وطن، وأملًا لا ينكسر. لم يكتفِ هؤلاء بالحضور، بل اختاروا أن يكونوا فاعلين، فأضاءوا القاعات والمسارح، وعبّروا عن المجتمع السوداني بلغة الفن، وساهموا بجدارة في التوعية والتنوير وصون الوجدان الجمعي.
وفي هذه الفعاليات المئة، تداعى المبدعون والمهتمون بقضايا السودان في هذا المنعطف الخطير، وانخرطوا في نقاشات تناولت الفن، والمجتمع، والثقافة، والمسرح، والأدب، وحتى السياسة. أثاروا الأسئلة، وأشعلوا الحوارات. ويوم الأحد من كل أسبوع، دون انقطاع، يتحرك مؤشر خرائط “قوقل” نحو 116 شارع محمد فريد، الطابق الثالث، بوسط البلد؛ تتجه الأنظار محمّلة بالأمل، في لقاء مزيد من المبدعين والمثقفين والفنانين الذين ما زالوا يؤمنون بأن للفن رسالة، وأنه لا يموت في الغربة.
هذا المكان، الذي صنعه المبدعون بأنفسهم وسط الزحام والتيه، بات وطنًا مؤقتًا للفن السوداني في مصر. مساحة نستعيد فيها أنفسنا، ونسترجع صوتنا الجمعي، ونؤكد أننا ما زلنا هنا: نتنفس، نبدع، نحلم ونتفاءل.
وقد تولّى رئاسة هذا التجمع منذ بدايته الأستاذ الكاتب نادر السماني، الذي أسهم بجدارة في التأسيس والبناء، ووضع اللبنات الأولى لهذا الكيان الثقافي. ثم انتقلت الرئاسة إلى الدكتور عادل حربي، المخرج المسرحي المعروف، الذي يقود التجمع حاليًا بكل حكمة واقتدار، مواصلًا مسيرة العطاء، وداعمًا للأنشطة، وراعيًا للمبدعين، رابطًا إياهم بالمجتمع عبر فعل ثقافي جاد.
و لان الاحلام الكبيرة تبدأ صغيرة فان الاتحاد – “اتحاد تجمع الفنانين السودانيين في مصر” – لم يولد كبيرا ، بل كان ثمرة لفكرة أولى صغيرة نمت في ذهن الفنانين محمد عليش وزهير عبد الكريم، ثم تطورت ، بفضل العزيمة و الاصرار و هكذا تتحقق الاحلام (نحن البنحقق امانينا ؛ )واتسعت الفكرة لتضم عددًا من المبدعين المؤمنين بضرورة وجود كيان جامع في المنفى، من بينهم الموسيقار علي الزين، والأستاذ شمت محمد نور، والموسيقار الشافعي شيخ إدريس، وهشام كمال، والفنانة الشابة انتصار محجوب، وغيرهم كُثُر ممن ساهموا في التأسيس والبناء.
ولا يمكن أن نغفل الدور الملهم الذي قامت به نساء بلادي – نساء من ذهب كما عهدناهن – وعلى رأسهن الفنانة هادية طلسم “البلبلة”، التي أدت دورًا محوريًا في تجهيز الدار وتوفير الأثاث رغم صعوبة الظروف. هكذا هن دائمًا سيدات السودان: سندٌ في وقت الحاجة، وجمالٌ في زمن الجفاف، وصوتٌ راسخ في مسيرة الإبداع.
وتزداد أهمية هذا التجمع حين نرى أثره العملي في دعم مشاركة المبدعين السودانيين في المهرجانات الإقليمية والدولية، كما في مسرحية “نون الفجوة” التي شاركت مؤخرًا في مهرجان الإسكندرية. فقد تكفّل الاتحاد بتوفير مكان البروفات، وسهّل إقامة الفريق، وكان شريكًا حقيقيًا في إنجاح العرض، في وقت غاب فيه الدعم الرسمي.
فالمسرحية مثلت السودان في محفل دولي، بعد أن رفضت السفارة السودانية دعم الفريق، مكتفية برد خجول مفاده أن الميزانية مخصصة لشراء قطعة أرض لتحويلها إلى مقابر للجالية السودانية! ولم توفر السفارة حتى علم السودان، فظل مرفوعًا فوق المسرح بجهود شخصية، واكتفت السفارة بإرشاد الفريق إلى أماكن صناعة الأعلام في سوق العتبة. (ما قصرتو.)
وهنا لا بد من طرح السؤال بصوت عالٍ:
كيف يمكن لبلد أن ينهض بفنه، إن كانت مؤسساته لا ترى في المبدعين سوى عبء، وفي الفن ترفًا؟
لذلك، ورغم بساطته، يظل هذا التجمع مساحة تُمارَس فيها الكرامة الإبداعية.
ولا يمكن الحديث عن هذا الحراك دون الإشادة بكل من نظّم، وقاد، ودعم، وحفّز. قد تسقط الأسماء من الذاكرة، لكن بصماتهم ستبقى محفورة على جدار الوجدان، وعلى لوحة التاريخ التي أعادوا رسمها بريشة الأمل.
كما لا يمكن إغفال الدعم الكبير الذي قدمه الفنان مسعد فودة، رئيس اتحاد الفنانين العرب ورئيس نقابة السينمائيين المصريين، الذي فتح ذراعيه لهذا التجمع، ووضعه تحت مظلة رسمية، مانحًا إياه المكانة الاعتبارية والدعم الحقيقي. وامتد دعمه إلى مخاطبة الجهات المصرية لتسهيل إصدار التأشيرات للمبدعين السودانيين، كي لا يُحرموا من المشاركة والانخراط في هذا الكيان الإبداعي الحر.
ودعونا لا ننسى الدور العظيم الذي قام به الفنان مسعد فودة.
لقد كان أحد الداعمين الأساسيين، وقدم دعمًا غير محدود، حتى أصبح لهذا التجمع اسمٌ ومكانة يُشار إليهما بالبنان.
شكرًا مسعد فودة على عطائك، ووقوفك إلى جانب المبدعين السودانيين في لحظة حرجة.
وشكرًا لكل مؤسسات الدولة المصرية التي قدّمت التسهيلات، واحتضنت الفنانين، وأسهمت في إنجاح كل الفعاليات.
اليوم، من السودان، نقول لكم جميعًا:
شكرًا من القلب. لقد كان لوقفتكم معنا أثرٌ كبير، لا يُنسى.
وباسم كل من تنفّس الفن في هذا البلد الكريم، نقول:
شكرًا مصر،
شكرًا لمؤسساتكم الداعمة،
شكرًا اتحاد الفنانين العرب،
شكرًا لهذا العطاء، وهذه الشراكة التي أعادت لأرواحنا الطمأنينة.
في زمن القسوة والانكسار، كان الفن حضنًا للجميع؛
كان الشعر، والمسرح، والموسيقى، والغناء، والتشكيل، رسائل مقاومة ناعمة ضد التمزق، وخط دفاع معنوي ضد التوحش.
علامة على أن هذا الشعب ما زال قادرًا على الحلم.
وكما عهدناهم دائمًا، فإن فنانينا عنوانٌ للصبر والثبات،
يبدعون بلا انقطاع، رغم كل المؤشرات التي توحي بالضياع،
لكنهم صنّاع الأمل، يفتحون آفاقنا نحو الإيمان بأن القادم… أجمل.
وإننا نأمل – بل نطالب – أن ينتبه القائمون على الشأن العام، إلى أن هؤلاء المبدعين يستحقون الدعم والاحتفاء، فهم لا يصنعون جمالًا فحسب، بل يعيدون ترميم ما تهشّم فينا بفعل الحرب والشتات.
لهم التحية، والتجلة، والاحترام.
وشكرًا لاتحاد تجمع الفنانين السودانيين في مصر، الذي أعاد لنا شيئًا من ملامح الوطن، وكثيرًا من الإيمان بأن الدنيا ما زالت بخير.
وكم نأمل أن تكون الفعالية القادمة “بانوراما توثيقية”، تستعرض هذا الجهد الجبار، وتُضيء ما تم تقديمه من فعاليات ومبادرات في هذا المكان الصغير بمساحته، الكبير بما يقدّمه.
فرغم ضيق المساحة… يتّسع الأفق دائمًا نحو ما يمكن أن يُقدَّم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى