عودة إلى تشكيل الحكومة حكومة البروفات والحركات المسلحة بقلم ..محمد الحسن محمد نور

حين أعلن السيد رئيس مجلس السيادة عزمه تعيين رئيس وزراء وتفويضه كامل الصلاحيات لتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، لتملأ الفراغ، استبشرنا بها وباركناها – رغم إدراكنا لقصورها – واضعين نصب أعيننا تسليط الضوء مستقبلاً على ذلك القصور وتبيان إصلاحه أثناء التنفيذ. وعلى الرغم من عيوب الطرح، إلا أن الفكرة كانت وما زالت تمثل الخطوة النوعية الأهم على الطريق الصحيح – وليس مجرد شيء خير من لا شيء.
إن مجرد إعلان نية العسكر إسناد السلطة لحكومة كفاءات مستقلة لإدارة البلاد والتفرغ للعمل الميداني يُعد نقلة نوعية في الاتجاه الصحيح.
كتبنا وقتها مقالًا مطولاً بعنوان “حكومة كفاءات مستقلة.. سلاح ذو حدّين”، سعينا من خلاله إلى ترقية النية الحسنة لتصبح واقعًا ملموسًا وتنتج حكومة فاعلة. وقلنا حينها بالحرف الواحد إن هذه الخطوة تمثل بارقة أمل حقيقية وسط العتمة الخانقة التي تعيشها بلادنا، ولا ينبغي التفريط فيها بأي حال من الأحوال.
كان من البديهي أن يُفهم أن الرجل قد توصّل إلى اتفاق مسبق مع شركائه الذين يقاتلون معه باتخاذ هذه الخطوة المهمة، إلا أننا تحسبنا في ذات الوقت لاحتمالات عدة، ولم نغفل التحذير من خطرين محتملين؛
أولهما: الخوف من أن يحيد الرجل عما وعد به،
وثانيهما: أن يجد نفسه محاصرًا ويخضع أو يتراجع تحت ضغوط بعض الأطراف التي قد تسعى لتحويل العملية إلى شكل من أشكال المحاصصة، وعلى الأخص أطراف اتفاق سلام جوبا الذين يقاتلون إلى جانبه، والذين ظلوا يصرّحون بتمسكهم بالمزايا التي اكتسبوها بموجب ذلك الاتفاق، دون التفكير في ظروف الحرب.
وبالفعل، وقع ما كنا نخشاه. فبمجرد وصول البروفيسور كامل إدريس وأدائه القسم، هرع أصحاب “الحقائب الجاهزة” متوجهين بكلياتهم إلى بورتسودان، تاركين خلفهم الميدان، وكأنهم جاءوا لتقاسم الغنائم لا لتثبيت دعائم الدولة. أما في الميدان، فقد تسبب هذا الانصراف في خسائر غير مبررة. لم تفوّت المليشيا وداعموها الفرصة، فالتقطت أنفاسها سريعًا وعادت إلى التمدد في كردفان، (بعد أن كانت متقهقرة), ثم تمكنت من توجيه ضربتها الأقوى بمساعدة المشير خليفة حفتر، حيث سيطرت على المثلث الحدودي (الواقع بين السودان – مصر – ليبيا – تشاد)، وهي منطقة مفتاحية تمكّنها من تأمين خطوط الإمداد وبناء ارتكاز يصعب اقتحامه.
ومع كل ذلك، فإننا على ثقة تامة، ولا نشك لحظة، في أن الجيش قادر على حسم التمرد (إذا كان لا بد مما ليس منه بد). لكن لم يكن هناك أي داعٍ لارتكاب مثل هذه الأخطاء الفادحة، وما كان ينبغي التفريط في مواقع استراتيجية يمكن أن تعرّض العملية العسكرية لخسائر أكبر. ولا يُعرف لماذا لم تُناقش هذه الخطوة المهمة بين المتحالفين؟
ولا يعرف ما اذا كان تعيين الدكتور كامل إدريس ومنحه كامل الصلاحيات لتشكيل حكومة من كفاءات مستقله، كان قرارًا فرديًا بالفعل أم غير ذلك؟
ولكن، وبرغم هذه الكبوة، فاننا ما زلنا نرى في تعيين رئيس وزراء مستقل ومنحه صلاحيات واسعة لتشكيل حكومة كفاءات مستقلة فرصة نادرة فى هذا الوقت الحساس، وخطوة مهمة. ونبقى نرقب اكتمال التشكيل لنبدأ محاولة وضع التجربة على طاولة النقاش الإعلامي للارتقاء بها وتصحيح مسارها، وتحديد كيفية تفعيلها.
فنحن ندرك أن المضي في تشكيل الحكومة وفق الفهم السائد حاليًا – إذا لم يُصحّح – فإنه لن يساعد على الوصول إلى أي شكل من أشكال الاستقرار، بل سيقودنا حتمًا إلى واحد من احتمالين فاشلين:
الأولهما، أن يجد الوزير نفسه في دائرة الاهتمام (والتضخيم بفعل المطبلين والنفعيين) فيُصاب بداء العظمة والزهو. كيف لا، وهو الذي فاز بالمنصب “بالجدارة المستحقة” – فيتحول إلى دكتاتور داخل وزارته، فلا يرى إلا ذاته، ولا يسمع إلا صدى صوته. أنه هو الأكفأ، وهو المرجع، وهو الأعلى. فلا يقبل النقد، ولا يسمع نصيحة من أحد، ويعيش طربًا لتصفيق المنتفعين، وتقديس الشهادات.
أما الاحتمال الثاني، أن يتحول الوزير – من فرط حرصه على المنصب – إلى خاضع ذليل للجهة التي عينته، فيصبح مجرد دمية أو ديكور، بلا رأي ولا إنجاز.
ولكي نفهم جوهر الإشكال وجذوره، دعونا نستأنس بتجاربنا القريبة، من خلال نظرة سريعة للحكومات التي سبقت الأزمة الحالية.
فمنذ عهد نميري، ومرورًا بعهد البشير، ووصولاً إلى حكومات ما بعد الثورة، تم استوزار عشرات الأكاديميين من حملة الدكتوراه والأستاذية. تم تلميع صورهم ودُبّجت وزخرفت لهم سير ذاتية حافلة بالشهادات الأكاديمية والخبرات العملية. فأين هي إنجازاتهم الآن؟
والمدهش حقا، إن أسوأ النتائج حدثت على أيدي أفضل الكفاءات وأشهرها.
ومثالا لذلك دعونا نبدأ بالدكتور محيي الدين صابر – هذا الرجل الذي يُعد أحد أعمدة التعليم في العالم العربي، والذي تولى إدارة “الألكسو” التابعة للجامعة العربية – لم يتمكن من إنقاذ التعليم في السودان، بل تدهور في عهده، وانهار السلم التعليمي، وانحدر إلى القاع في جميع التقييمات العالمية. لماذا؟ سنتعرف على الأسباب.
ومثال آخر: د. جعفر محمد علي بخيت، خبير الإدارة المحلية اللامع. وُضع على المحك في عهد نميري، وبرغم ظهوره الإعلامي الكثيف، لم يضف شيئًا يُذكر. ذهبت تنظيراته سُدى، وخرج الحكم من يده إلى قبضة الأجهزة الأمنية. لأنه كان عملًا فرديًا محضًا.
هذان مثالان فقط من كفاءات سودانية نادرة تم استغلالها باسم “الخبرة”، وإقحامها في الحكم بلا رؤية.
فكانوا “كالمنبت، لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى”.
أما في عهد البشير، فقد ازدحمت الساحة بالبروفات ودرجات الدكتوراه، منها ما هو معروف، ومنها غير ذلك: د. نافع علي نافع، د. عوض الجاز، د. أمين حسن عمر، د. علي كرتي، بروف إبراهيم غندور… وغيرهم العشرات والعشرات.
فأين الإنجازات؟
النتيجة واضحة للعيان: حروب في كل الاتجاهات، مليشيات تتناسل، قتلى ونزوح بالملايين، اقتصاد منهار، تعليم متوقف، انهيار في الخدمات، تهريب للثروات، انقسام للبلاد.. البلاد تحوّلت إلى “جنازة بحر” – جسم متحلل، لا يُدفن، ولا يُحرّك، ألم يكن هؤلاء كفاءات”؟
أم واجهات ناعمة لنفوذ خشن؟
الخلل أعمق .
فبعد الاستقلال، تمت سودنة الوظائف العليا للدولة بسرعة.تفاديا لحدوث فراغ إدارى فتم إسناد المناصب العليا لضباط وضباط صف من قوة دفاع السودان – عرفانًا لدورهم في الحرب العالمية الثانية – رغم
أنهم غير مؤهلين وبلا خبرة مدنية أو إدارية. السودنة كانت بحق الحدث الأفدح حيث تسبب انعدام الرؤية فى غياب أى برنامج سياسي أم استراتيجية، مما تسبب فى عدم قدرة السودان تحقيق أى تقدم.
الخلل الثانى كان بسبب فقدان الكوادر الفنية والإدارية بسبب تقليدٌ ترسخ من خلال صعود الكوادر الفنية في السلم الوظيفى في الخدمة المدنية، فالطبيب أو المهندس عندما يبلغ أعلى السلم يُرقى إلى مدير، فقط بسبب جاذبية المنصب ومخصصاته، دون أى إعتبار لمسألة مؤهله إداريًا. فخسرت البلاد بذلك المهني والإداري في وقت واحد. وأى خسارة! وأى فوضى!!
لذلك فإنه ليس من المستغرب أن الوزير حامل المؤهل حين يُوضع على رأس وزارة دون رؤية أو آلية لصنع القرار، أن يتضخم وهم الكفاءة فى وعيه فيرى في نفسه الأكفأ والأعلم، والأحق بأن يأمر فيطاع، فلا يقبل التصحيح، ولا التقييم. وهكذا، يتحوّل الوزير إلى دكتاتور داخل وزارته، باسم المؤهلات والشهادات.
إن طرح المفهوم البديل قد أضحى الضرورة الأكثر إلحاحا الآن. رؤية تجمع المستقلين للحل السياسي الشامل تطرح البديل فى خطوات واضحة ومبسطة:
حكومة تُنتج القرار عبر دراسته بواسطة لجان فنية متخصصة مستقلة، ووزير يرفع التوصيات، وجهة تشريعية تراجعها وتجيزها، ثم تُنفّذ بوضوح وتحديد تحت مسؤولية جسم رقابى.
وقد اقترحت الرؤية استبدال لفظ “الحكومة” أصلًا بـ”الإدارة الانتقالية”، تحاشيًا لتضخم الذات، ومنعًا لاختزال العمل الجماعي في رأي فردي.
فحكومة الكفاءات الحقيقية ليست حكومة “ناس كويسين”، ولا “أصحاب شهادات”، بل منظومة دقيقة لإنتاج القرار، ومؤسسة تعلو على الأفراد.
نحن لسنا في حاجة إلى مزيد من البروفات.
نحن في حاجة إلى مشروع دولة.
محمد الحسن محمد نور
———–
📎 للاطلاع على رؤية تجمع المستقلين للحل السياسي الشامل، يمكن الرجوع إلى الرابط التالي:
*رئيس تجمع المستقلين يعلن الرؤية الشاملة للحل السياسي الشامل للأزمة السودانية.*
رئيس تجمع المستقلين يعلن الرؤية الشاملة للحل السياسي الشامل للأزمة السودانية.