خالد سعد عثمان.. يكتب .. هل مات المخبر الصحفي؟

حتى وقت قريب، كان للمخبرين في الصحافة السودانية “شنة ورنة”، يحظون بتقدير كبير لدى القراء ومؤسساتهم، لدرجة أن قامت مشاحنات مهنية بين المخبرين في أقسام الأخبار وزملائهم في الأشكال التحريرية الأخرى، على الرغم من الهدف المشترك.
شهدنا عهدا كان المدخل الحرفي لمهنة الصحافة يأتي من حقل الأخبار، تأسيسا على معارف فلسفية وعملية أثبتت جدارتها، وما تزال هي الأداة الفعالة لنقل التصور الذهني إلى النص المفهوم.
عرفت الصحافة السودانية قدرات هائلة في مجال الأخبار، ولا يغفل التاريخ الشفاهي والمكتوب رواد هذه المدرسة في الصحافة الوطنية مثل الصحافي الراحل إدريس حسن، الذي صدر جزء يسير من تاريخه الصحفي الضخم، في كتاب “قصتي مع الانقلابات العسكرية”، وفي البال أيضا الراحل عمر الكاهن، وغيرهم مما لا يسع ذكرهم دون بحث معمق.
تلك كانت مرحلة أهمية الخبر وقيمته من جدته، تناسب الوعي الصحفي السائد وشغف الجمهور، كما كانت ممارسة عملية لتفكيك المدرسة الغربية الحديثة للأخبار بنسق سوداني.
ثم جاءت مرحلة اهتمت الصحافة بكتابة الخبر وصياغته متلائمة مع سياسات التحرير ومعايير علمية حديثة، وتفنن عمال الديسك في استخدامات اللغة، حتى كادت في بعض الأحيان أن تكون مزعجة، لتخليها عن العادية السهلة للغالبية من الجمهور.
وفي مرحلة ما، أنقذت (كيف)، المخبرين من خسارة الجمهور المتعطش للمزيد، ومهدت للانخراط في تجربة القصة الخبرية، وتناوب المخبرون في استخدام فنونها اللغوية والتركيبية، ثم صعد المخبرون إلى كتابة “الفيتشر” بمعنى القصة الإخبارية الإنسانية، ووفرت أوضاع السودان المأساوية المواد الخام للمخبرين.
وبعد الانقلاب الأساسي الذي أحدثته ثورة التكنولوجيا، وانتشار وسائل الاتصال، تضعضعت مهنة الصحافة بشكل عام، لكن المخبر التقليدي كانت مصيبته أكبر، فقد صار منافسيه ليس هم أقرانه في أجهزة الأخبار الأخرى فحسب، بل جمهوره أيضا.
لقد حولت التكنولوجيا الجمهور إلى مخبرين، وحاول علماء المدرسة الغربية تأطيرها في مفهوم (المواطن الصحفي)، لكن ذلك ما خفف من قلق المخاوف الجذرية لمحترفي الأخبار.
في هذه الأجواء الانتقالية المعولمة، نشأ مجتمع جديد على فضاء الإنترنت، يخبر ويتلقى في آن، جمهورا ورأيا عاما يتشكل من عوامل داخل هذا الفضاء، تعجز نظريات مثل دوامة الصمت أو ترتيب الأجندة عن فهمه، وما وجد العلماء الذي أنتجت حداثتهم هذا المجتمع، نظرية متماسكة للتعامل مع هذا التطور المستمر، ولا يوجد عدا كبار صناع تكنولوجيا الاتصال من يملك القدرة على الفهم والسيطرة، وهم أيضا مهددون بالمبتكرين الجدد.
على الرغم من كل ذلك ما يزال هناك متسع –على الأقل في المرحلة الحالية- للتأقلم، إلى حين ابتكار المخبر الاصطناعي ذي الحساسية الإخبارية المجتمعية، وهي بعيدة منال على منتجي الذكاء الاصطناعي.
ينصح كبار المخبرين في العالم زملاءهم القلقين على واقعهم ومستقبلهم، بالاستمرار في الأخبار من الحقل، أيا من الميادين التي لا تكون جزءا من مجتمع فضاء الإنترنت، وكذلك عليهم أن ينتقلوا إلى الصحافة الرقمية مستفيدين من أدوات التكنولوجيا في الوصول إلى الأحداث والتحقق منها ومعايرتها، وتقديمها في قوالب حديثة.
قد تكون تلك حلولا، لكنها لا تبدد قلق المخبرين تماما، إذ تتضاءل في كل يوم حقول المجتمعات غير المعولمة، كما أن نقل الأحداث الٱنية لم تصبح أمرا يهم المخبر وحده.
أصبحنا نشاهد مواطنا صحفيا في إحدى الدول منهمك في تصوير تصادم سيارتين بينما دماء الركاب تسيل تحت رجليه، أو آخر يبث فيديو يتضمن مجازفات تسع طويلات مع شخص غافل مار على الطريق، أو شخصا يتبنى خطابا خبريا يثير الفتن الاجتماعية والجهوية، وآخر يبث المعلومات المضللة.
هل من الممكن التخلي عن السبق الصحفي بمفهومه الزمني الوقتي على الإنترنت؟
كثيرا ما يعجز هذا المفهوم من تلبية المعيار الإخباري الأول “الدقة” لجودة المادة المنشورة، بينما يمكن لأي مادة خبرية تحمل معلومات جديدة ومفيدة أن تشكل أهمية وسبقا صحفيا في أي وقت وليس بالضرورة الآن.
ماذا لو تخلينا عن أهمية عض إنسان كلب؟ هل ما تزال أولوية، تتسم بالغرابة؟
الآن يشاهد الكثير في قنوات الأخبار فتاة تقبل أسدا بشنباته.
يمكننا أن نهتم أكثر بالمعلومات التي يتوقع أن تكون جديدة لجانب كبير من الجمهور، مثل كيف يمكن للكلب أن يكون وفيا حتى لمن يعض؟، ومعرفة إن كانت هذه العضة تسبب سعارا للكلب أم لا؟!
هنالك العديد من المعايير التي يدرسها ويفهمها ويتدرب عليه المخبر المحترف قبل النشر، قد تفيد في المحافظة على هذه التخصصية من الاندثار، وتختلف هذه المعايير في فهمها من مجتمع إلى آخر، ومن مؤسسة إلى أخرى، ومن ناشر صحفي إلى آخر، ومن محرر إلى آخر، لأنها ترتبط في العادة بسياسات التحرير للمؤسسات الصحفية، وهي بنت بيئتها الدينية والاجتماعية والثقافية.
ويشمل ذلك معيار الدقة (المعلوماتية… مصادر المعلومات والتحري من صحتها)، كما يشمل (الدقة في النقل أي المصداقية وعدم التحيز)، وهنالك الدقة في التحرير (ترجمة التصورات الذهنية في فن الكتابة).
والتوازن مقابل والمعلومة الواحدة أي (الرأي، والرأي الآخر)، والإنصاف والكرامة الإنسانية مقابل غياب العدالة والوصمة الاجتماعية، وتظهر بشكل أكثر وضوحا في تغطية حوادث العنف والحرب، وتغطية القضايا الاجتماعية ذات الحساسية الاجتماعية، وفي الأوضاع السياسية الهشة مثل حالة الانتقال السياسي من نظام سياسي إلى آخر.
ولدى المخبر دراية بمفهوم الملكية الفكرية مقابل الاستخدامات العشوائية، (استخدامات الإنترنت في الإنتاج الخبري).
للمخبر المدرب وعي بأهمية احترام المعتقدات والخصوصيات الثقافية مقابل خطاب الكراهية، ويشمل ذلك الخطاب العنصري، والتحريض على العنف.
لربما تشكل هذه المعايير مستندا قويا لاستمرار جهود المخبر الصحفي، خصوصا في المجتمعات المشرئبة للنمو والتطور من داخل بيئتها دون انعزال من العالم، وهي معايير تنطلق من محاولات إعادة تعريف النماذج التطبيقية للاتصال التنموي.
مصادر المقال:
1/ كتاب ( قصتي مع الانقلابات العسكرية)، تأليف الصحفي الراحل الأستاذ ادريس حسن، شركة مطابع السودان للعملة، 2013م
2/ شبكة الجزيرة، ضبط الجودة والمعايير التحريرية، الطبعة الثانية 2015.
3/ إرشادات تحريرية بشأن مساهمات المستخدمين في إنتاج الأخبار، وسائط البي بي بي سيhttps://www.bbc.com/editorialguidelines/guidelines/accuracy/mandatory-referrals
4/ ورقة للكاتب بعنوان (الجودة الصحفية وأثرها في خطاب الكراهية.. دراسة وصفية تحليلية في الصحافة السودانية الورقية)، مقدمة في مؤتمر علمي بجامعة افريقيا العالمية، يناير 2023.
5/ عاطف عدلي العبد ونهي عاطف العبد: (الاعلام التنموي والتغيير الاجتماعي- الاسس النظرية والنماذج التطبيقية) – دار الفكر العربي 2007م.