كيف يبدو السودان بعد سيطرة الدعم السريع على حقل هجليج:قراءة في الوقائع وتداعياتهابقلم: محمد الحسن محمد نور

لم يظهر أي أثر عملي للقاء ولي العهد السعودي بالرئيس دونالد ترامب على مسار الحرب في السودان. فرغم الوعود بأن ينتج اللقاء خطوات أمريكية لوقف القتال، ووضع حد للفظائع، والحد من تمدد الدعم السريع، فإن واشنطن لم تُعلن أي إجراءات مباشرة. وفي الوقت ذاته، تقدّمت قوات الدعم السريع على الأرض بصورة لافتة، ما يعكس وجود فراغ واضح في الجهدين الإقليمي والدولي تجاه الأزمة.
التحول الأول كان صينيًا.
في 8 ديسمبر، طلبت الشركة التي تمثل الحكومة الصينية إنهاء اتفاقيات تقاسم الإنتاج وخط الأنابيب في حقل بليلة قبل نهاية الشهر، بسبب “القوة القاهرة” وغياب الأمن. هذا التطور يمثل إشارة مبكرة إلى فقدان الثقة في قدرة الحكومة السودانية على حماية قطاعها النفطي، ويجعل أي اتفاقيات أخرى عرضة للانسحاب في أي لحظة.
بعد ذلك بوقت قصير، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على هجليج، برّر الجيش انسحابه بغرض حماية المنشآت النفطية. غير أن الواقع يشير إلى أن هذه السيطرة جاءت امتدادًا لسقوط بابنوسة، وهو السقوط الذي كان للحركة الشعبية – شمال الدور الأبرز فيه، حيث فتح الطريق أمام تقدم قوات الدعم السريع نحو واحدة من أهم نقاط الإنتاج النفطي في البلاد.
ولا بد هنا من الإشارة إلى الدور الخفي لدولة جنوب السودان، التي تحكمها الحركة الشعبية الأم التي تفرعت منها حركة عبد العزيز الحلو.
إذ إن موقف جنوب السودان يظل يعكس تناقضًا واضحًا.
فقد صرّح الفريق جونسون أولوني بأن بلاده “ستلتزم الحياد”، وأن قواتها “ستؤمن الحقول”. ومعلوم أن جنوب السودان هو المتضرر الأكبر من توقف النفط، لاعتماده الكلي على خط بورتسودان. لذلك فإن إعلان الحياد، رغم الخسارة المباشرة، لا يستند إلى منطق واضح.
الأكثر إثارة للتساؤل هو قوله إن قواته ستقوم “بتأمين الحقول”. فكيف سيتم ذلك؟
هل سيقاتل القوات التي أحكمت السيطرة على المنطقة؟ أم أن هذا التصريح يشير إلى أن جوبا لا تنسق مع الخرطوم، وربما تنسق مع الحركة الشعبية – شمال، بحكم الجغرافيا والارتباط السياسي؟
مجمل هذا الوضع قد يصب في مصلحة جوبا، إذ يفتح المجال لتحركات مستقبلية في مناطق أبيي وجنوب كردفان، في ظل فراغ سيادي وأمني متنامٍ.
السيطرة على هجليج تحمل أضرارًا مباشرة للحكومة السودانية؛ فتوقف الإنتاج أو اضطرابه يعني خسارة إيرادات سيادية مباشرة، إضافة إلى خسارة رسوم النقل والتخزين، وتراجع الحركة التجارية، ما يفاقم الضغط الاقتصادي في لحظة حرجة أصلًا.
أما الدعم السريع، فربما يأمل في الحصول على “الكنز” الذي لطالما حلم به، غير أنه لا يملك القدرة على بيع النفط في الأسواق الدولية لأسباب عدة، من أهمها انسحاب الكوادر الفنية، وصعوبة وصول النفط أو تهريبه إلى الخارج، فضلًا عن موقف حكومة جوبا. لكنه، في المقابل، يستفيد سياسيًا وعسكريًا من هذه السيطرة عبر إضعاف الحكومة وحرمانها من أهم مواردها المالية، وخلق واقع من الفوضى الإدارية والاقتصادية حول أخطر المنشآت السيادية، إضافة إلى اكتساب ورقة تفاوضية في أي مسار سياسي قادم.
على المستوى الإقليمي، كان الصمت لافتًا وله دلالاته. فالدول التي كان يُنتظر أن يكون لها موقف مباشر ومؤثر في الأزمة السودانية، إما خفّ صوتها أو غاب تمامًا.
مصر، التي طالما أكدت أن أمن السودان جزء من أمنها القومي، تبدو اليوم منشغلة بملفات داخلية وإقليمية أخرى، وتتعامل مع الأزمة السودانية من زاوية التحسب لا المبادرة، مكتفية بالمتابعة دون أي تدخل فعّال، لا عسكري ولا سياسي، يوقف التدهور أو يحد من تمدد الفوضى على حدودها الجنوبية. وهذا يشير، في المقام الأول، إلى أنها وُضعت تحت ضغط هائل.
أما تركيا، التي كانت حاضرة سياسيًا واقتصاديًا في السودان خلال السنوات الماضية، والتي ظل رئيسها رجب طيب أردوغان يصرح بأنه لن يسكت عما يجري في السودان، فقد سكتت هي الأخرى، وتراجع حضورها إلى الحد الأدنى، والأسباب متشابهة.
في المقابل، تقوم الولايات المتحدة بإدارة الأزمة “من الخلف” لا حلّها. وقد تركزت خطواتها العملية في إجراءات قانونية وإدارية، مثل:
– التحرك نحو تصنيف تنظيم الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، وهي خطوة تصب في اتجاه تفكيك بنية الجيش.
– فرض عقوبات على شركات أمنية كولومبية متورطة في تجنيد مرتزقة لصالح الدعم السريع.
– فرض عقوبات على أشخاص متفرقين دون أن يظهر لذلك أثر فعلي على الأرض.
ورغم أهميتها الرمزية، فإن هذه الإجراءات لا تشكّل ضغطًا مباشرًا لوقف الحرب، ولا تمثل سياسة متكاملة لحماية الدولة السودانية أو منع انهيارها، بل ربما تسهم في خلق واقع جديد مرسوم في واشنطن وجهات أخرى.
أما روسيا، فموقفها أكثر غموضًا. لم تصدر موسكو تصريحات واضحة، ولم تعلن دعمًا لأي طرف، ولم تطرح مبادرة فاعلة. هذا الصمت لا يعكس حيادًا بقدر ما يشير إلى احتفاظها بالملف السوداني كورقة تفاوض تُستخدم لاحقًا، مع تفضيلها الحفاظ على التماهي مع مواقف واشنطن، في ظل صراع أوكرانيا وأوروبا، فيبدو المشهد وكأنه تراجع مقابل تراجع.
وفي هذا السياق، ظل الشعب السوداني يترقب نتائج التصريحات التي صدرت عن لقاء ولي العهد بالرئيس ترامب. غير أن تلك النتائج لم تُترجم إلى خطوات عملية على الأرض، لا لوقف إطلاق النار، ولا لكبح تمدد الدعم السريع، ما يعزز الانطباع بأن السودان لا يزال خارج دائرة الأولويات العاجلة لمعظم الفاعلين، أو يُنظر إليه كملف مؤجل يمكن احتواء تداعياته لاحقًا.
ختامًا، إذا كان الحفاظ على وجود الدولة السودانية هدفًا حقيقيًا، فلا بديل عن تغيير الخطط الحالية. وإذا كنا لا نملك الإفتاء في الخطط الحربية، فإننا نملك – وقد فعلنا سابقًا – تقديم النصح السياسي.
ما زالت الحكومة الحالية قادرة على أخذ زمام المبادرة عبر خطوات واضحة، منها:
– التوصل إلى اتفاق مع حزب المؤتمر الوطني المحلول، يتضمن الاعتراف به كحزب، واستبعاد القرارات الصادرة بحقه، على أن يلتزم بتقديم الأفراد المتورطين في الفساد لاحقًا بعد استعادة الدولة لعافيتها، مع إعلان اعتزاله الطوعي للعمل السياسي خلال الفترة الانتقالية لصالح إدارة تكنوقراط.
– وبما أن الدولة قد صنّفت المليشيا منظمة إرهابية، فإن هذا الوضع القانوني يمنع التفاوض معها؛ وعليه يجب على الحكومة كسر الطوق والتقدم، بشجاعة ودون وساطات، للتفاوض مع داعمي المليشيا بصورة براغماتية خالية من العواطف والحماسة السياسية الجوفاء، وتأمين مصالحهم المشروعة، وفتح أبواب الاستثمار أمامهم دون المساس بسيادة الدولة، بما يؤدي إلى قطع الإمداد عن المليشيا.
– إعلان السودان دولة فيدرالية، والتطبيق الفوري في الولايات التي يسيطر عليها الجيش عبر انتخابات ولائية حرة.
– تشكيل مجلس تشريعي للدولة بانتداب ثلاثة أعضاء من الفائزين في الانتخابات الولائية.
– للتوسع في هذه الرؤية، يمكن الرجوع إلى مقالَي الكاتب:
• «الآن.. الآن وليس غدًا (1)»
https://alsudaninews.com/?p=198411
• «الآن.. الآن وليس غدًا (2)»
https://alsudaninews.com/?p=198582
محمد الحسن محمد نور
13 ديسمبر 2025


