حين يصرخ القلم… تسقط (أم فيوز) ..بقلم : “سماح طه” – التايمز نيوز
رأي

حين يصرخ القلم… تسقط (أم فيوز) ..بقلم : “سماح طه”

في زمنٍ صار فيه القلم خطرًا، والقول الحق مغامرة، والأخلاق ظلًّا باهتًا لفضيلةٍ تراجعت، خرج الأستاذ عثمان ميرغني إلى العلن… رجلٌ لا يملك سوى كلمة، ولا يتكئ إلا على ضمير، لكنه استطاع بكتاباته أن يربك المتمترسين خلف جيوش النباح المدفوع، وأن يعرّي من اعتادوا تحويل الخلاف الفكري إلى سباب رخيص، والنقاش إلى فوضى.

الأستاذ عثمان ميرغني لا يملك ميليشيا تُرهب الخصوم، ولا جوقة تُصفّق له، ولا يستند إلى جماعات منظّمة تحشد له الطريق. كل ما يملكه هو قلم يقف وحيدًا في مواجهة عواصف كاملة. ومع ذلك صار هدفًا لهجمة منظّمة، عمياء، بلا سقف ولا عقل ولا رحمة؛ هجمة تكشف الوجه الأكثر انحدارًا للمجال العام: أصواتٌ تُستأجَر للضوضاء، تُموَّل لتشعل الفتن، وتحوّل اللغة إلى خراب، والمجتمع إلى ساحة تُداس فيها القيم بلا تردّد.

وفي قلب هذا السقوط، برزت امرأة تجاوزت إساءاتها كل حدّ، كان العمر يفترض أن يمنحها حكمةً ووقارًا، فإذا بها تتحول إلى ما صار يُعرف عند الناس بـ**“العجوز أم فيوز”**؛ صوت منفلت لا يفرّق بين النقد والابتذال، ولا بين الرأي والتهتّك، ولا بين الاختلاف والفجور اللفظي. كل ظهور لها صاعقة، وكل جملة حطام، في صورة تُجسّد هشاشة المجتمع أمام هذا النمط من العنف اللفظي.

وأمّ فيوز هذه لن تقوى على الصمود أمام المهنية والموضوعية، لأنها لا تُجيد سوى إشعال النيران، ونفخ الرماد، وتحريض العابرين، ثم الانقضاض على الآخرين بتخوين جاهز وتهمٍ مُعلّبة. فهي أوّل من يشعل الفتيل، وأسرع من يندفع إلى إطلاق الحملات بلا وعي ولا تردّد، وكأنها لا تجد لنفسها حضورًا إلا في فوضى تصنعها بيديها.

إنّ ما يحدث اليوم لا ينتمي لفضاء الرأي ولا ميادين الجدل، بل هو اغتيالٌ كاملٌ للشخصيات بأساليب رخيصة تتغذى على الشائعة، وتكبر في فراغ الوعي، وتتسع كلما غاب السؤال البديهي:
من أين جاءت المعلومة؟ ومن يملك مصلحة في نشرها؟
والمؤسف حدّ الوجع أن ينساق وراء هذه الفوضى زميلٌ من أهل المهنة، ممن يُفترض أن امتلاكه لأبسط أدوات التحقّق والعقل المهني يُحصّنه من السقوط في حفرة الهراء. فالقلم ليس خنجرًا، والكلمة ليست ذريعة للانتقام، والمسؤولية المهنية لا تسقط لمجرد أن الضجيج أعلى من الحقيقة.

وهذه الظاهرة لا تفعل سوى أن تُعيد إلى الواجهة المثل القديم: البراميل الفارغة أكثر ضجيجًا. غير أن هذا الضجيج — مهما علا وصخِب — لا يلبث أن ينطفئ، لأن الصوت المزعج غير المتّزن لا يجد من يحتمل الإصغاء إليه طويلًا. فهو يكشف، من دون أن يقصد، فراغ الداخل المدهون ببريقٍ زائف في الخارج؛ صوتٌ بلا عمق، وضوضاء بلا معنى، وقشرة لامعة تخفي خواءً لا يمكن ستره مهما تزيّن أو تجمّل.

إن انحدار بعض الأصوات إلى ترويج الشتيمة مكان الرأي، وإلى تشخيص الخلاف بدل تفكيكه، هو شهادة صادمة على انهيار معايير المهنة قبل انهيار الخطاب العام. فعندما تُهزم القيم، لا يبقى في الساحة إلا الضوضاء… ولا يعلو فوقها إلا من ظل متمسكًا بالحقيقة.

وليس الأستاذ عثمان ميرغني وحده من يعاني من هذه الحملات الرخيصة المدفوعة، بل هناك آخرون كثيرون يجدون أنفسهم هدفًا لشائعات وتضليل ممن يتقاضون ثمنًا لنشر الضجيج والكراهية. وما رُوّج مؤخرًا حول قناة لشوقي عبدالعظيم وماهر أبو الجوخ، من ادعاءات تمويلها من الجنجويد بدعم خارجي، يبعث على القلق ويشير إلى خطر تحول هذه الظاهرة إلى نمط متكرر. إنه أمر خطير، يستحق الدراسة الدقيقة، ويستلزم جهودًا منسقة لمحاربة الشائعات وتجفيف منابعها قبل أن تهدد سمعة الأفراد والمجتمع بأكمله.

وقد يخرج من يزعم أن ما أكتبه اليوم تمّ بتنسيق أو اتفاق، لكنني — وأشهد الله على ما أقول — ما خطت يدي حرفًا إلا إحقاقًا للحق، ولا وقفت إلا حيث ينبغي أن يقف الضمير. والأستاذ عثمان ليس أول من أدافع عن حقّه في أن يُسمع صوته بلا تشويه ولا تحريف؛ فالقضية عندي ليست أشخاصًا بل مبادئ. لقد آمنتُ دائمًا بأن أضعف الإيمان أن نُسهم في تصحيح المفاهيم المختلّة قبل أن تتحول إلى كارثة تطال زملاءنا وأساتذتنا، وتهدد أساس المهنة التي تجمعنا وتعلّمنا شرف الكلمة. إن الصمت أمام الظلم مشاركة فيه، أمّا الكلمة حين تُقال بصدق وإخلاص، فهي عبادة لا مجاملة، وموقف لا يُخجِل صاحبه يومًا.

وأسوأ ما في هذه الحرب أنها كشفت سوءاتنا للملأ، وعرّت ما كنا نغطيه خلف الشعارات واللافتات البراقة. والأسوأ من ذلك أننا لم نجد وسطًا إعلاميًا متماسكًا ينتشل وطنًا كان يُفترض في إعلامييه أن يحملوا مشاعل الاستنارة وروح السلام، وأن يقودوا المجتمع نحو نور المحبة لا نحو ظلمات الكراهية. لكن يبدو أن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فمن عجز عن تهذيب لغته لن يقدر على تهذيب الوجدان، ومن لم يعرف قيمة الكلمة لن يهتدي إلى طريق الوطن مهما علا صوته أو تعددت منابره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى