“بعيدا عن السياسة… قريبا من دبشليم “.. بقلم د. شمس الدين يونس نجم الدين

العام ١٩٨٠ لم نزل طلابا بعطبرة الثانوية… كنا فتية ( الرشيد احمد عيسي و محمد عبد الخالق و شمس الدين يونس و محمد عمر حيدر و احمد علام )آمنا بالمسرح و اذددنا حبا و شغفا….نلنا ذهبية التمثيل بعرض (الكرت الأحمر.)… لذو الفقار و اخراج عوض رحمة في الدورة المدرسية الرابعة ، بعد منافسة شرسة مع عرض البشارة ( مطر الليل ) للمسرحي العميق محمد محي الدين…. مما ذاد لحبنا للمسرح و جاء العام ١٩٨١ للحفاظ على الكأس…جاءت الدورة المدرسية الخامسة ..(بعروس الرمال) الأبيض …. كانت السماء صافية … الحياة لم يعكر صفوها الا عدم الحصول علي نص يعبر عن طموح هؤلاء الفتية… قال أحدنا اذهبوا لذوذو …كما يحلو لنا أن نناديه … لياتيكم بنص … أخذنا دراجة رالي من النوع الذي تمنحة السكة حديد للعاملين … وجعل من عطبرة جوهانسبيرج…. ذهبنا الي مكتب التعاون بعموم السكة الحديد ، حيث يعمل ذو الفقار… تم استدراجه و اختطافه بالدراجة الي منزل عوض رحمة … ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتي يخرج بنص…. جلسنا نتفاكر … و توصلنا لمناقشة قضية التعليم … ارتجالا … بدأنا البروفات بلا نص …. كل يعمل باسمه الحقيقي( جعفر الباشا و طارق محمد علي و شمس الدين ومحمد عمر و محمد عبد الخالق…) مجموعة من الطلاب في المرحلة الثانوية يتضجرون من الدراسة و المناهج و المذاكرة… و ينتهي بهم الأمر بحرق الكتب …المهم كما قال عادل امام ثمة اشياء مهمة جدا أمام أعيننا…و لم نستطيع رؤيتها…و رايناها بعد فوات الأوان…المهم يا سادتي …بعد ان أنهينا صناعة العرض …دون ادراك كامل …إن الدراما دلالات و رموز حتي اسماء الشخصيات …الامر الذي عرض عوض فنون للمساءلة لماذا حرق الكتب و يحرقها (جعفر) بالتحديد الدلالة ذهبت قريبا من السياسة …. و بعيدا عن المسرح …و ذهبنا الي ( عروس الرمال ) … نحمل (امال و احلام) الفوز بكأس الثقافة … تحرك القطار من عطبرة … و حنان النيل تطلب قلما لكتابة ( نص مرت الايام ) و اسماعيل عبد الجبار يقيم البروفة … و تسمع أنغام آلة الكمان … من عربة الطالبات عذبة شجية… وتصعد حنان النيل الي خشبة مسرح كلية المعلمات بالابيض و تشدوا ب(مرت الايام ) و يصحو عبد الدافع عثمان طربا و تصاب الطالبات بهستيريا و يوقف الغناء و اصعد الي خشبة المسرح وانزل حنان من خشبة المسرح دون اكمال الفاصل … تحضر عربة الاسعاف لأخذ الطالبات …
و عذرا للاستطراد… أحداث لابد منها … نذهب باكرا الي الأسواق (ابو جهل) و (السوق الكبير ) …نقصد المكتبات و أماكن بيع الهدايا الصغيرة و تلبية وصايا الاهل … نقف قليلا عند بائعي الكتب … لفت انتباهي كتاب صغير ذو غلاف ابيض ومكتوب بخط التعليق ( كنا ندرس فنون الخط العربي علي يد عوض رحمة و صناعة الخرف علي يد عبد الرحمن عبد الله ) ….(سقوط دبشليم.)… قصيدة مطولة للشاعر محمد مفتاح الفيتوري … دفعت الثمن وأخذت الكتاب و انا اعرف بعضا من قصائده من اصدارة عثمان السيد( رؤي الساعة ال ٢٥ )…….حملت ثقل القصائد …وانا اتذكر ما قرأت في رؤي الساعة ال ٢٥ …حوار البومة و الطاوؤس….
قالت البومة للطاوؤس: لولا صورتي الدميمة الكريهة ما كنت تمشي الخلاء معجبا بريشك الجميل ..
فابتسم الطاوؤس ضاحكا و قال :
صدقت يا سيدتي الحكيمة
فكبرياء الكبر
تعني قمة الذلة..
في الذليل
و كثرت الكثير …
قلت القليل….
وصلت الي مقر اقامة الوفود … و سرعان ما بدأت اتصفح الكتاب… (سقوط دبشليم) …هامش لابد منه؛ من يكون دبشليم و من هو بيدبا ؟ فدبشليم يا سادتي هو كبير ملوك الفرس ..وكان بيدبا كبير الحكماء المعروف بالحكيم بيدبا …و الكتاب عبارة عن قصيدة مطولة للفيتوري مأخوذة عن كتاب( كليلة ودمنة) ل عبدالله بن المقطع…الكاتب و الناثر و الشاعر و الحكيم الفارسي …. و اول ما ان فتحت الكتاب قرأت فيما قرأت:
قال دبشليم ….
حدثني يا حكيم …
عن ماء يلوح راكدا وهو اسن ..
وعن شعاع في منازل النجوم يحتضر..
يا الله …
(ليه يا زمان ما سبتناش ابرياء…)
و يمر تتر مسلسل ليالي الحلمية … من أمامي و اسمع صوت سيد حجاب يردد…
و (من فين بيجي الشجن …
من اختلاف الزمن) ..
(من فين بيجي الرضا..
من الإيمان بالقضاء)
و تمر الذكري و (لولا الذكري مافي شجن) ..و في ذات يوم و قبيل المغرب بقليل و نحن جلوس عند حنان النيل في منزلها بالمقرن نتجاذب اطراف الحديث … اذا بطرقات خجلي علي الباب فتحت الباب… اذا بامرأة و طفلة عند الباب و بكل هدوء سألتني…هذا منزل الاستاذه حنان النيل ؟
نعم هو ..تفضلي … دلفت الي الداخل مع طفلتها و ما ان جلست حتي فاجاتنا بقولها : انا (……… )و هذه ابنتي( حنان ) الي هنا الأمر عادي و طبيعي .. الي ان قالت أنا التي اغمي علي في الأبيض يوم عرض حنان النيل و اغنية(مرت الايام )و اخذوني بالاسعاف … و تزوجت و هذه ابنتي اسميتها حنان… فانتحت بحنان جانبا … و قالت لها ما قالت من تفاصيل ذلك اليوم ….و (من فين بيجي الشجن من اختلاف الزمن ….) و انا اتصفح ما قاله الفيتوري علي لسان بيدبا :
اللصوص اقتحموا حواجز الميناء…
و حطموا راية السفينة..
و سرقوا كنوزها الثمينة
ولم يزل قطبانها يضرب في ازقة المدينة…
يبحث عن منظاره القديم ..
تلك هي الرواية التي اري فصولها يا دبشليم…
اكتب عن عصرك …
وابني لك في شعري قبرا من ذهب…
ترقد يا مولاي من افراحه في مهرجان …
و تصبح فرعون الذي كان و كان
ومثل ما جاء ذهب ….
الا بقايا من حنطة..
و مومياء ملك… و ظل صولجان..
……….
ومن انكسار الروح في دوح الوطن
يجي احتضار الشوق في سجن البدن
………
و ظللت
شاحب الرؤي…
و احلم بالافول..
يا ريح ماذا أقول
لو ان ذلك القمر القديم مات..
ما الذي اقول …
……..
في الأرض ثورة …
و في السماء ثورة ….
يا دبشليم
كيف تستعذب نوم العين…
و انت بين بين…..؟؟؟