بين الشاعرين الكبيرين الراحلين “محمد مختار عبدون” و”مندق علي الأزهري” ..بقلم “البروف فؤاد شيخ الدين عطا”

هل كان من قبيل الصدفة أن يتزامن رحيل الرجلين العظيمين محمد مختار عبدون ومندق علي الأزهري؟
ما الذي كان يجمع بينهما غير الشاعرية الكبيرة والحساسية الفنية العالية؟
(أراد محمد مختار أن يقول شعرا فغنى غناء الوجود وعزف لحن الخلود…..وأراد مندق على الأزهري أن يكتب نصوصا لغرض التلحين فجاءت النصوص ذاتها ألحانا عبقرية)
العمل المشترك بينهما من إنشاء محمد مختار وتلحين مندق من أحب الأغاني النوبية الى نفسي ومن أعلق الأعمال الفنية النوبية بالقلب..ولا غرو فقد سكب محمد مختار في النص من قلبه ونفخ فيه مندق من روحه فجاء في أبهى حلة
أعني أغنية (وو نلو بلحنها المندقي القديم )
كان كلاهما فاعلا في منصة تأسيس شعر ما بعد الحداثة في المشهد الأدبي النوبي
فقد عمقا معا(ومعهما مكي علي إدريس عجل الله شفاءه) عناصر بناء نص ما بعد الحداثة النوبي
أولا: فعلوا المفردات النوبية القاموسية بتطوير دلالاتها،بل بإعادة إنتاج دلالاتها أحيانا
ثانيا : عمقوا بناء الصورة الشعرية بالانتقال التدريجي من علاقات المفردات الأفقية إلى الرأسية في عمليات تعد فتحا كبيرا في باب المجاز
ثالثا: التعمق في التخييل في السرد والحوار جميعا
رابعا: إثارة الأسئلة شبه الوجودية بالتركيز على فلسفة الحب(الحبيبة/الأرض/الوطن/الثقافة)
خامسا: العناية الفائقة بعروض الشعر النوبي(يلاحظ أن مكي يعني بالتقفية السيمترية المتماهية مع عروض الشعر العربي التقليدي مع فارق كبير بين العروضين…م مختار ومندق يركزان على النبر والتقفية الداخلية…هل تأثر الشعر العربي في السودان بنظام النبر في الشعر النوبي ولو في حدود ضيقة؟ربما )
خامسا: اختيار السهل الممتنع أسلوبا وتصاوير ولغة(هذه الناحية يختص بها محمد مختار ومندق أكثر شئ..
مكي علي إدريس دون غيره من شعراء منصة التأسيس ينفرد بما كان يسمى عند العرب بالحولي المحكك….ذلك لأنه بسبب تبحره في علم اللغة النوبية الى فصيح المفردات وفرائدها السنية
كان زهير بن أبي سلمي من شعراء الجاهلية معروفا بالتحكيك والتجويد والصبر على القصيدة سنة كاملة حتى يستقيم له عمودها ويتلئب سبيلها..فهو بهذا المعنى لم يكن معدودا في الشعراء المطبوعين مع أن محمد بن سلام الجمحي وضعه في الطبقة الأولى مع امرئ القيس والنابغة والأعشى
يمكن تشبيه مكي على إدريس بزهير..ومحمد مختار بصناجة العرب الأعشى..ومندق بالنابغة…والفاتح شرف الدين بامرئ
القيس….امرؤ القيس فتح للناس أبوابا من الشعر لم يكن للناس عهد بها..فقد قالوا إنه أول بكى على الديار واستبكى وشبه المرأة بالبيض…في جملة من الأوليات…وللشاعر الكبير الفاتح شرف الدين أوليات سنأتي على ذكرها إن شاء الله
ولئن اعتمد مكي على علمه الغزير بمعجم اللغة النوبية وتراكيبها مما جعله قادرا على التحكيك وعلى تمتين الإطار الشكلي للقصيدة..فضلا عن أنه موسيقي كبير…فإن الشاعرين مندق ومحمد مختار يمتحان من عبقرية فيهما مستكنة مع تميزهما في باب الثقافة الروحية بحواملها المتعددة وعناصرها المختلفة)