“حفرة ” … مسرحية في اللحم الحي…. بقلم : سماح طه

على خشبة مسرح ايوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقفت البنيات الثلاث: انتصار محجوب ،سلمى يعقوب ، وإيمان حسن ، ليقدمن عرضهن المسرحي “حفرة”، برعاية مشروع التراث الثقافي للمهاجرين بالجامعة الأمريكية.
ثلاث بنات لابسات سواد ومبدعات، جعلْنَ من المسرح مرآةً لجرحنا الجمعي وصوتًا لوجعنا المستتر.
يكفينا نحن النساء فخرًا بانتمائهن إلينا، فهكذا هن دائمًا نساء بلادي، في الموعد عند لحظة النداء. قدمن جرعة مسرحية قادرة على إحياء الروح التي أنهكتها كثرة المصائب، تلك الروح التي حسبناها ماتت لكنها تنهض كل مرة بفعل الفن.
في هذه (الحفرة)، حكت كل واحدة منهن قصتها. وكل حكاية وجدت صداها في القاعة، كأنها الحكاية الخاصة بكل متفرج. امتلأت الصالة بأحاسيس الوجع المكبوت، وجاء الأداء ليوقظها من سباتها الطويل.
انتصار محجوب “بيرين”، صديقة الروح، الشهادتي فيها مجروحة. فنانة في كل تفاصيلها، وفي هذا العرض قدمت لنا انتصار من نوع جديد، رغم وجع الركب ومرارة الشوف.
أما سلمى سليمون، فقد احترت فيكِ أنا شن أقول… حقيقي كنتِ ملء السمع والبصر.
وأنتِ يا إيمان، رغم أني أول مرة أشوفك في عمل فني، إلا أنني الآن كلي إيمان بأنك تسيرين بخطى ثابتة. كنتِ أكثر من رائعة، ولن تعودي إلا وأنتِ تحملين “بقجة” من الإبداع.
كانت تلك اللحظات، التي امتدت لما يقارب الساعة، بمثابة تنويم مغناطيسي؛ أبحرنا به إلى عوالم آلامنا الخفية التي نحاول إخفاءها، لنتظاهر بأننا أقوياء وأن الدنيا ما زالت بخير.
ووسط العرض، مرّت جملة صغيرة اخترقت القلوب:
“بقينا نستقبل أخبار الموت عادي” …
جملة واحدة فقط، لكنها كسرت الحاجز بين الخشبة والجمهور، وأصابت الجميع في مقتل، إذ لامست جرحًا جمعيًا لم يعد يحتمل.
وحين أُسدلت الستارة، حاول الناس أن يداروا دموعهم الساخنة. التفت كل واحد إلى جاره باحثًا عن مخرج من هذا الانكشاف الإنساني، ليكتشفوا أن البكاء لم يكن خيارًا، بل ضرورة. وتجلت الحقيقة: من لم يبكِ أمام هذا العرض، فعليه أن يتحسس إنسانيته.
ولعل من الواجب أن نرفع التحية لمؤلفة ومخرجة النص، الشابة ماجدة نصرالدين كوكو، أينما كانت، فهي العقل والروح التي صاغت هذا الوجع بلغة مسرحية بليغة. كما نحيّي الشاب الصديق والفنان المخرج محمد عليش، الذي حمل راية ماجدة في غيابها، ولا نقول له إلا: ياها المحرية فيك. فقد كان انحيازه للمرأة وقضاياها واضحًا منذ تجربته في نون الفجوة، ونحن بدورنا ننحاز للرجل الذي يعرف أن مكانه الحقيقي إلى جانب المرأة، لا في مواجهتها.
ولأن العمل الكبير لا يكتمل إلا بجنوده، لا بد من الإشارة إلى فريق هذه المسرحية:
مساعد المخرج أمنية، التي حملت على عاتقها تفاصيل التنفيذ الدقيقة.
والموسيقى والمؤثرات الصوتية التي صاغها الموسيقار المبدع الشافعي شيخ إدريس، فكانت بمثابة روح إضافية تسري في النص.
أما التنفيذ فكان بتوقيع إيهاب بلاش، الذي جعل الخشبة أكثر حياة وحركة.
وبعد نقاش ومداولات مع ناقد مجاور، تبلورت أمامي هذه الرؤية النقدية:
منذ بدايته، تحرك عرض “حفرة” في مسارين مختلفين: الأول يلغي التراتبية الأرسطية للدراما (الحبكة، الشخصية، الفكر…) ويرفع من شأن الأدوات غير اللفظية كالموسيقى والحركة والصورة، وهو ما أفضى أحيانًا إلى غموض في المعنى. أما المسار الثاني فظل متمسكًا بتراتبية أرسطو، مقدمًا للمتلقي معاني واضحة ودلالات جاهزة. وبين هذين المسارين، جاء العرض مزيجًا بين ما قبل الدراما وما بعدها؛ بين وضوح الدلالات وتشظيها، بين البكاء والهتاف (حرية، سلام، وعدالة)، وبين التساؤل المعلق.
هذا التشظي لم يكن مجرد تقنية جمالية، بل انعكاس مباشر للذات السودانية المتصدعة تحت وطأة الحرب والاغتراب والذاكرة المثقلة. العرض منذ بدايته وضعنا في قلب الصراع، بصوتي مخرجين متنازعين، ليكشف لنا صورة الذات السودانية الممزقة بين المرجعيات، الباحثة عن المعنى، والمستنزفة بالدماء.
وفي النهاية، أنا لست ناقدًا تطبيقيًا، لكن “هادي فيني ناقد”.
وفي الختام، لسنا متفرجين فقط، بل نحن جميعًا داخل تلك الحفرة… وقعنا فيها معًا، لكن يبقى الخروج منها هو المحك الحقيقي.
فهذه الحرب لم نشعلها، ولم ندعُ يومًا لاستمرارها، لكننا وحدنا ندفع فاتورتها الباهظة، وتكلفتها التي غطّت أجسادنا بدمائنا.
ويظل الفنان الحقيقي هو من يحمل مشعل السلام، بلا انحياز إلى الطواغيت ولا انجرار وراء دعاة الخراب. ويظل المسرح السوداني، على مر الزمان، ساحة لترسيخ مفهوم أن الحل يسكن الفن، وأن الجمال لا يموت حتى وسط الركام.
وأتمنى أن يسمح مشروع التراث لهذه المسرحية بفرصة عرضٍ ثانٍ إن كان ذلك ممكنًا. فأنا على يقين بأن الدكتورة أميرة أحمد، مايسترو المشروع، قادرة على أن تجعل ذلك ممكنا، فهي لم تبخل يومًا ولم تتأخر عن تقديم أقصى ما تستطيع لأجل السودانيين.
وشفتوا كيف؟ نساء بلادي غالبينكم ستة صفر… وبكل هدوء.